الغش الثقافى وباء تعرضت له الأمة الإسلامية قديما وحديثا، ثم يتصدى له الراسخون فى العلم فيكسرون شوكته ويكشفون حقيقته، فإما قطعوا دابره ونجت الأمة منه! وإما بقيت له ذيول تختفى هنا وهناك، لتنفث شرها بين أولى الغفلة حتى يتيقظ لها العلماء العدول فيتم القضاء عليها ويستريح المسلمون منها.. وتختلف أنواع الغش باختلاف العصور، ولكنها تصدر عن علة واحدة، الذهول عن الكتاب الكريم، والعجز عن تدبره والإحاطة بأحكامه ودلالاته.. قديما قال ابن عربى: إن فرعون تاب وقبل الله توبته، فمات طاهرا وذهب إلى الله مسلما! فهل يقول هذا الكلام رجل قرأ قوله تعالى عن فرعون: «يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود، وأتبعوا فى هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود! هل يتقدم قومه ليسلمهم إلى مالك خازن النار، ثم يعود مكرما ليدخل الجنة؟! إن مياه البحر الأحمر والأبيض والأسود لن تطهر فرعون أبدا مهما قال: «آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو اسرائيل....». وابن عربى عابث كذوب.. ولنترك هذا النموذج القديم للغش العلمى ولنضرب مثلا بغش جديد، رجل يتزعم حركة إسلامية كثيرة الصياح يقول: إن الاسلام يقوم على الحرب الهجومية ويعتمد كل التوسع العسكرى ويجعل السيف أساس علاقاته بالآخرين. وهذا كلام فى غاية الغثاثة والبطلان، فالمسلمون فى المدينة أخرجوا من ديارهم وأموالهم وصودرت عقائدهم وعباداتهم واستبيح إخوانهم فى الدين وأهدرت حقوقهم. فكيف يوصف تعرضهم لأعداء الله الذين فعلوا ذلك كله بأنه حرب هجومية؟! ولم يبق إلا وصفه بأنهم إرهابيون كما يتهم اليهود الآن العرب! وبعدما طردوهم من أرضهم! المصيبة أن بعض المتحدثين فى الاسلام لديهم مقدار هائل من قصر النظر وقلة الوعى! والأدهى من ذلك أن يتحول هذا الفكر السقيم إلى مبدأ تؤلف فيه كتب وتنبنى عليه مواقف! أكثر هؤلاء لا يعرفون مكانة الأسرة فى المجتمع، ولا مكانة المرأة فى دعم الأسرة، والشائعة الكبرى التى يطلقونها عن الإسلام انه يحتقر الأنوثة ويضن عليها بالحقوق الطبيعية للانسان السوى، حتى شاع فى أرجاء الدنيا أن الاسلام عدو المرأة وظالمها وواضع العقبات فى طريقها إن أرادت ارتقاء. ونساء العالم يشعرن كأن الاسلام يكن لهن البغضاء ويرى الموت أستر لهن من الحياة! إن محمدا أرسل رحمة للعالمين ونصيب المرأة من هذه الرحمة العامة أن تنال من العلم ما يرفع مستواها الانسانى، وأن يكون لها فى المسجد ما يرفع مستواها الروحى، وأن يكون لها من الوعى الاجتماعى ما يعنيها على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما افترض ذلك القرآن الكريم. أما أن تنشأ فى الحلية كى تكون محظية فحل وحسب! ذلك منطق حيوانى ما عرفه سلفنا الأول وإن نادى به أناس يدعون السلفية زورا.. فى كتابنا الكريم ما يضع العلاقات الانسانية على دعامة ثابتة من التآخى والتراحم مع أنى فى هذا العصر أكره زواج المسلم من غير مسلمة إلا أنى لا أستطيع إنكار حكم ثابت فى دينى ينشئ علاقة حب ومودة بين مسلم وكتابية تعيش بين أحضانه! وليس هنا مكان للإطالة فى فهم هذه القضية، كل ما أريد شرحه أن الله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف لا لنتشاكس وعندما يقترب بعضنا من بعض نرى الآخرين من شمائلنا ما يحببنا إليهم وما يقفهم على كنوز الرحمة والسماحة التى زخر بها ديننا! وذلك ما يزيل السدود أمام إقبالهم عيه وإعجابهم به! والواقع أن فضائل الصحابة والتابعين هى التى أغرت الشعوب باعتناق الإسلام بعدما انكسر الاستعمار الرومانى الجاثم على صدورها. نعم إن سلفنا فتح البلاد بأخلاقه الدميثة، ومسالكه الزاكية، ولم ير فى الفاتحين إلا محررين نجدوا إخوانهم المظلومين وكسروا قيودهم وردوا إليهم حرياتهم المسروقة. هؤلاء هم سلفنا الذين أغرت أحوالهم بدخول الاسلام. أما اليوم فماذا ترى؟ جهال يهددون العلماء! وأصحاب عقد يتوعدون أصحاب الفطر السليمة وعوام سيوفهم خشبية يخيفون من فجروا الذرة، وأميون ربما قدروا على فك الخط يهددون نساء يحملن أعلى الإجازات الدراسية أعرف أن حضارة أوروبا وأمريكا تحتوى على مباذل شائنة، إن مؤرخا إنجليزيا مثل «توينبى» حذر قومه من التفسخ والهلاك بهذه المباذل التى تشيع! ما لنا ولهذه الهنات؟! إننا نحاربها بداهة، لكننا لا نستبدل جاهلية عربية بجاهلية أوروبية! كلتاهما شر وانما ننشد الاسلام وحده لنضع الطيب مكان الخبيث. والإسلام لا يعرفه قوم محبوسون فى سجن التخلف الذى أودعوا فيه من أيام هزائمنا الثقافية والسياسية إلى اليوم! ولن أسأم تكرار هذه الجملة الواعية: «دين الله أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى».