في مجلس البلدية ذي الطراز الكلاسيكي العتيق، انعقد الحفل الكبير كما أريد له أن يكون مهيباً لسبب ربما لايعرفه أحد من شعب المقاطعة، وإن تواتر بين الناس أنه بمناسبة الاحتفال بمرور 25 عاماً علي رسامة كاهن الكنيسة المعروف والذي في طريقه لترأس أبارشية جديدة لايزالون يعدون لها. كان علي رئيس البلدية أن يلقي كلمة الافتتاح. في صدر المنصة جلس الكاهن وأمامه رهط كبير من النظارة، فقد كانت إعلانات الحفل تملأ المدينة ولذا كان الحضور كثيفاً والحفل مهيباً حتي هذه اللحظة. تأخر رئيس البلدية، فرأي بعض المنظمين أن ينقذوا الموقف بأن يتحدث الكاهن في البداية، حيث عبر عن سعادته الغامرة بخدمته الطويلة في هذه البلدة، مذكراً أن ذلك لم يكن انطباعه في بداية عمله، إذ كان أول من تقدم له بالاعتراف شخصا أسر له بأنه سرق تلفازاً وكذب علي الشرطة ونجا بفعلته، ثم بعدها سرق مالاً من أبويه، واختلس مبلغاً ضخماً من صاحب العمل، وتاجر بالأدوية المهربة، وسرق مصاغ أخته، وخان صديق عمره. أردف الكاهن: »أمام كل هذه الاعترافات فقد كانت صدمتي كبيرة، ولكني بعد أن تعرفت إلي سكان البلدة عرفت كم هم طيبون ومسالمون وأن أول رجل اعترف لي، لم يكن يمثلهم بأي شكل». صفق الحضور، وحالما أنهي القس كلمته دخل رئيس البلدية واعتلي المنصة بكل ثقة وصلف،واستهل حديثه قائلاً:» لقد مرت السنون مسرعة ونحن في حضرة الكاهن العزيز الذي لن أنسي أبداً أنه عندما قدم إلي بلدتنا، كان لي كل الشرف بأن أكون أول شخص يعترف أمامه». وهنا لكم أن تتصوروا كيف كانت ردود أفعال الحضور وصدمتهم، وكيف انتشر الخبر في المقاطعة كلها، بل والدولة وصارت الحكاية حديث الجميع وطافت الفضيحة كل الأرجاء. وإذا حاولنا تحرير الحكاية كما يقول الفقهاء والمناطقة حتي نفهم، أو تفكيكها إلي عناصرها الأولية كما تشير الفلسفة عند »جاك دريدا»، فلعلنا نشير أولاً إلي فارق التوقيت حيث تأخر رئيس البلدية فحدثت المفارقة وانكشف الأمر بالفضيحة؟ ثم هل المشكلة في التوقيت وحده ؟،وإذا افترضنا أن الرجل حضر في موعده وقال كلمته قبل الكاهن، فهل كنا نضمن أن يخفي الكاهن الحقيقة ويخدع الناس؟ عشرات الأسئلة قد تدور في رأسك الآن، وكلها لن يعفينا من الوصول إلي نفس النتيجة، ومهما كان فارق التوقيت، إذ الزمن ليس إلا دالة في حدوث الأشياء والوقائع، لكأنه قطار سريع يدهس في طريقه كل من تخلف عن روح العصر فاستهتر وكابر علي حساب الناس والحقيقة. شيء من هذا دار في مخيلتي وأنا أتابع الضجة الكبري عن حوار عماد الدين أديب والإرهابي الليبي في برنامج »انفراد» المنتحل اسمه من قناة أخري ومقدم آخر غير أديب. لم أكن قد رأيت الحلقة فعادتي ألا أشغل نفسي بترهات هذه البرامج التي إن لم تؤخر فهي لاتقدم شيئاً ذات قيمة للناس والدولة ولا حتي لرصيد إعلامنا التافه المغيب وباروناته المنتفخين علي خواء الفكر والثقافة بينما هم في حقيقتهم لاشيء، أو علي الأقل هذا حال أغلبهم إلا قلة ممن يحترمون أنفسهم ومشاهديهم، وهم للأسف أضحوا من الممنوعات بفعل عصر لايقبل ذوي الكفاءة في كل القطاعات ويكتفي بال »المديوكر» والمدعين، وربما تلك أزمتنا وهذه مصيبتنا. رجعت إلي مصادر شبكة المعلومات وتطبيقاتها، وتابعت لقاء عماد أديب مع الإرهابي. أحسست ساعتها أن أديب جاء متأخراً جداً كما صاحبنا في حكاية الراهب والاحتفال. وأن الفضيحة لحقته كما صاحبنا، لا بسبب فارق التوقيت وحده، وإنما بسوء الإعداد وانكشاف حصيلة المذيع وضعف أدواته وسطحية معلوماته وارتجال المواقف والأسئلة، حتي فقدان السيطرة علي الحوار، فبدا معها الإرهابي المجرم كواعظ ركب الحلقة وراح يوجه رسائله التي بدت سابقة لأديب ومحيطة بكل قدراته، حتي أن البعض اقترح عنواناً للحلقة: »حوار مع نجمك المفضل». هل هذه كانت جريمة أديب وحده؟ أم هي من فعل كل من نظر لهذا الشعب باعتباره فاقد الأهلية مغيب الوعي. فركت عيني أتابع، لكن كان التعب قد نال مني بينما أديب لا يزال يتكلم. هو لم يأت بجديد بل جاء صفر اليدين تشيعه عاصفة من الرفض والسخرية والغضب، ورغمها كان لا يزال قادرا علي الابتسام في ساعة الحداد علي أبطالنا الشهداء. تثاءبت وتذكرت كلمات أمل دنقل في قصيدته »الضحك في ساعة الحداد» حيث يقول: صفر اليد جاء/حين كنا في ضمير الليل روحا مجهدة/طرق الباب ونادي في حياء/فاستدرنا في فراش النوم/أحكمنا الغطاء/وتركناه لهبات الرياح الباردة. أخبار اليوم 11/19/2017 7:21:13 PM