فى بداية خمسينات القرن العشرين وفى مدينة المنصورة كنّا أطفالاً فى أُسرة متوسّطة ، وكانت تعمل لدينا فتاة ( تُدعى صبريّة ) فى بداية العِقد الثّانى من عمرها ، كى تساعد والدتى رحمها الله فى الأعمال المنزليه ، وكانت أُسرة هذه الفتاة تحْرص مثل العديد من الأُسر الفقيره المُقيمة فى الريف المصرى .. أن تسْعى لتشغيل بناتها لدى بعض الأُسر التى تُقيم فى ( البنْدر ) وهو إصطلاح كان يُطلق على المدن من أهل الريف ، وذلك لكى يتعلّموا وينْموا على طباع أهل البنْدر ، إلى جانب أنها تساعد أُسْرتها بجزء من راتبها الشهرى ، وتقوم والدتى بحفظه لها لحين موعد زواجها ، وكان هذا الراتب الشهرى ( سبعون قرشاً) يتم زيادته كل عام( عشرة قروش ) !! ، وبالطّبع .. طعامها وشرابها وكِساؤها صيفاً وشتاءاً ( خارج المرتب الشهرى ) ، وكان من حقّها مصْروف إسبوعي قدْره خمسة قروش .. مثلنا تماماً ، غالباً ما كانت تدّخره مع والدتى أيضاً ، إلى جانب فستان وحذاء كل عيد فطر وكل عيد أضحى ، وكل عام حلق أو ( غويشه ) ذهب أو أى أشياء مُعمّرة ( تُفيدها ) عندما يحين موعد زواجها ، لقد كانت هذه النماذج من شيم التكافل والتّراحم الإجتماعى .. متكرّرة لدى العديد من الأُسر المصرية التى تعيش في المدن ، وغالباً ما كانت لا تترك الفتاة العمل لدى تلك الأُسر .. إلا عند الزواج . وذات يوم سافرنا إلى القرية التى توجد بها أسرة الفتاه وهى مسقط رأس والدى رحمه الله لكى نقضى أيام العيد مع أقارب لنا ما زالوا يقيمون فى هذه القرية ، وكانت تلك الزّيارات التى تحدث فى أيام الأعياد وبعض المناسبات بالنسبه لنا .. نحن أبناء البندر .. حُلماً وترفيهاً شيّقاً ، فى رِحاب الطبيعة الرّحْبة والفِطرة السّويّه .. التي يحيا بها أهل الريف .. حيث نستشعر الأُلفة الحميمة بين النّاس والكائنات الحية والطبيعه ، فقد كنّا نهْرع إليها ( بعد الحصول علي العيدية أولاً ) بمجرّد أن نصل إلى القرية وحتى نغادرها ، فنداعب الدّيك الرّومى ، ونتسلّق شجر التّوت ، ونحْمل المعْزة الصغيره ، ونجرى خلف الجحْش الجميل ، ونستظلّ بشجر الصِّفصاف ، ونَرْكب الحمار ، ونلعب ( الأستغمّاية ) لنختبىء خلف الأشجار المُعمّرة على شطآن التّرعة النقية ( لقد كان تطهير الترع والمصارف .. يتم تلقائياً بشكل حضارى ) حتى وأننا كنا نرى أعماق هذه الترع .. والأسماك تلهو فيها وتسير ، ولقد كان عمّ سعيد والد الفتاه ( صبريّة ) هو الذى يرْعانا أنا وأخوتى وبعض أبناء أقاربنا ، فيصْحبنا فى ذلك التّجوال المُبْهر .. بين أحضان الحقول والحدائق ، بينما يتحرّك حوْلنا بكل رشاقة طائر أبو قردان ( المسؤول عن تطهير ونظافة المزروعات فى الحقول والحدائق من ديدان الأرض وحشراتها رحمه الله فقد اغتالته المُبيدات .. التى تحاول اغتيالنا الآن نحن أيضاً ) ، وما أجْمل ذلك التنوّع الرّائع حوْلنا .. لطيور الأرض والسّماء ، ونظلّ فى تلك الجنة حتى نشاهد آخر طقوس الصّباح والظّهيره .. فى تمام الساعة الثانية ظهر كل يوم حتى فى الأعياد حيث نرى ذلك الكوبرى الصغير بشكْله المعمارى البديع .. وهو ينْفتح من منتصفه مُتّكئاً على جانبيه وكأنه أحد الأعمال الفنية فى مجال Kinetic Art ، وذلك حتى تمرّ عدّة مراكب تسير فى تلك التّرعة الكبيرة وهى تحمل ( القُلل والبلاليص وبعض المنقولات ) !! ، وتلك الدقّة المُتحضّره .. تذكرنا بتمام الساعة الثامنة صباح الأول من سبتمبر كل عام فى المدن المصريه .. حيث تنتشر شركات المقاولات فى الشوارع والحوارى والأرْصفة .. أثناء نظام البلدية ( فى تلك الأيام ) هذا النظام الذى كان يُشارك الدّولة فى إدارة شئونها خاصة فى مجال الترميم والتطوير والتجميل والخدمات . ويصْحبنا ( عمّ سعيد .. والد صبريّة ) لكى نعود إلى المنزل لتناول طعام الغذاء الفاخر مع الأسرة الكبيرة ( أقاربنا وأبنائهم ) ، ولكن قبل ذلك تقوم أُمّى بمُعاقبة من اتّسخت ملابسه أو أساء التّصرف طوال تلك الفتره ، وكانت تقارير عمّ سعيد لوالدتى بمجرّد وصولنا أمينة ومُصدّقه . وفى الفترة الثانيه .. تترقب ساعات العصارى أطفال البندر ( بالشّورت والتى شيرت والجزمة الكَوِتْش والكسْكتّه ) ، حيث نتوجّه تحت رعاية عمّ سعيد إلى ( جُرْن القريه ) وهو عبارة عن ساحات كبيرة يقوم فيها الشّباب بالألعاب الرياضيه ، ما بين كرة القدم ، وسباقات العدْو ، وألعاب النّحْله .. حيث نضربها بكرباج بدائى لتستمر فى الدوران على الأرض ونحن ورائها ، ثم الجرى خلف الطّوق المستدير ودفعه بالعصا ، وكأنْه احتفال وتمجيد لاختراع العجلة الذى تم على يد أجدادنا المصريين القدماء منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام ، ثم ذلك الإبداع العجيب وهو صناعة إطارات صغيرة لسيّارة عاديّة أو بمقطورة أو قطار أو عجلة فقط .. من أغطية المياه الغازية وجسم بكر الخيط الخشبى وقطع من ( الأسْتك المستعمل فى الملابس الداخلية آنذاك ) وتجميع هذه الأُعجوبة بسلْك مقوّى يُنظّم اتزان هذه الإطارات ، وينتهى هذا السّلك بقائم وشكل مستدير .. يمثل ( الدريكسيون ) الذى نقود به هذه الإعجوبة ثم نسير فى أزقّة القرْية وطُرقاتها .. مستخدمين الكلاكس البشرى بأفواهنا ( بيب بيب ) وعلى أطراف الجُرْن بعض المراجيح البدائية من الحبال القوية ومسطح خشبى نقف أو نجلس عليه ( الدور بخمسة مليمات .. نصف قرش ) ، أو تلك المتطوّره والتى نركب فيها على ظهور مجموعة من تماثيل خشبية من المفروض أنها من وحى الحصان ، وتتحرّك بشكل دائرى ( الدور بعشرة مليمات .. قرش صاغ كامل ) وعلى مقْربة من ذلك المكان البديع .. بعض أطفال يقومون ( بتطْيِير الأبّوح ) وهذا الأبّوح .. هو صورة بدائية للطائرة الورقية التى يلعب بها أبناء البنْدر فى السّماء من على أسطح المنازل وعلى الشواطئ ، ويصنعه الأطفال من ورقة مقوّاه .. فى مؤخرتها ذيْل طويل من ورق عادى ، وتظل متّزنة فى الهواء .. ويتم التحكم فيها من خلال خيط يعلو ويهبط به الأبّوح حسب تيّارات الهواء ، وعلى أجناب الجُرن أيضاً باعة المزامير والصفافير والبلّونات وعيدان القصب والعسليّة والكرملّة وتُفاح الشام ، عالم مُتكامل من البهْجة والمتْعة والإنطلاق ، ثم تتواكب بدايات الرحيل مع غروب الشمس .. برفقة ( عمّ سعيد ) متّجهين إلى المنزل . وكان بيت هذا الرجل الطيّب يقع فى طريق العوْده ، وتصادف أن كانت زوجته ( أم صبريّة ) تبدأ فى تجهيز طعام العشاء على طبليّة كبيرة ، وُضِعت بين مصطبتين صغيرتين على جانبى مدخل البيت .. الذى كانت تتحرك عنده فهى تترقّب موعد عودة زوجها فى هذا التوقيت بعد غروب الشمس ، وقال لها عمّ سعيد : ( هوصّل الولاد وأجيب صبريّة وآجى ) ، وعندما وصلنا إلى المنزل كانت أُمّى فى إنتظارنا ، بينما والدى فى ( المضْيفة ) مع أصدقاء وأقارب لنا .. يتحاورون كعادتهم فى شئون الدين والعلْم والسياسة ، وبعد أن اطمأنّت والدتى علينا من تقرير عمّ سعيد .. نادت على ابنته صبريّة لكى تَصْحبه إلى منزلها للمبيت .. على أن تعود فى الصّباح ، وهنا طلب الرّجل من أُمّى بأدب جم .. أن تسْمح لنا بأن نعود معه لتناول العشاء فى بيته مع صبريّة وأخواتها ، وعندما اعتذرَت والدتى عن عدم قبول الدّعوة وشكرتْه .. ألحّ عليها مُستعطفاً ( وحياة غلاوتهم عندك .. ومقام البيه الكبير تُجْبُرى بخاطرى يا ست هانم ) ، ووافقت أُمّى أمام هذا الإلحاح المُهذّب بعد إستئذان والدى وذهبنا مع صبريّة وأبيها ، وكانت ( أُم صبريّة ) قد انتهت من إعداد العشاء وهى لا تعْلم أننا قادمون معهما ، ولم أنْسى هذه المائدة ( الطبليّة ) وما عليها : ( جبنة قديمة بالزّيت الحار ، جبنة قريش بالزّيت العادى والطماطم ، قشطه ، عسل أسود بالطّحينه ، عسل نحل ، وطبق كبير مَلئ بالبيض المسْلوق ، ومربّة لارنج ، طبق بطاطس باق من طعام الغذاء ، ليمون معصفر ولِفت مخلل ملوّن بالبنجر ، وعيش يتصاعد منه الدّخان .. تُعدّه أُم صبريّة فى فرن المنزل .. عند كل وجبه ، وفِجل وبصل وكرّات وسريس وجلوين ) ، هذه وجبة عشاء لأسرة فقيرة تعيش فى ريف مصر .. تتكون من أب وأم وخمسة أبناء وبنات وتستضيف بلا موعد ثلاثة أطفال من البندر !! ( وجدير بالذّكر أن مُعظم هذه الوجبه .. مكوّناتها من داخل المنزل ) ، وما أروع تلك الفرحة الغامرة التى تَرْتسم على وجوه الجميع .. وهم يتسابقون بكرم ومودّة على إطعامنا بأيديهم ، وأُقسم أننى لم أتناول طعاماً بهذه الرّوح الودوده وتلك الشهيّة .. قبل ذلك ، فالجُلوس على الأرض .. والبساطة النقيّة .. وذلك الدفء الإنسانى الحميم .. طاقات معنويّة تُؤثّر على طلاقة القدرة المُتبَادَله .. على دعم الحياة بالجمال والأمان .. فى كل ملامح الأفعال وردودها مِن وإلى أى شريحة إجتماعية تجاه الأُخرى هكذا كانت تسير الحياه فى مصر الطيبة ، وصَحِبَنا عمّ سعيد إلى المنزل .. حيث تسابقنا بمجرد وصولنا فى سرد ما تم فى تلك الإحتفالية البديعه ، والتى غمرتها مشاعر المودّة والمحبّة والكرم . وتتوالى مراحل الصّبا والشباب وما بعدهما .. خلال خمسينات القرن العشرين وحتى الآن ، وللأسف الشّديد .. تتلاشى تدريجياً هذه الصّور والمشاهد وتلك التّقاليد والمعانى النبيلة داخل منظومة عشوائية .. يتم فيها ترييف المدن ، فى الوقت الذى تتهاوى شخصية القرية فى ريف مصر ، وتُصْبح شكلاً مَمسوخاً من المدن ( التى تريّفْت ) ويتهرّب الرّضا والرخاء مستتراً خلْف إدارات متعاقبه .. كانت ومازالت قاصرة عن إدراك قيمة هذا الوطن الكبير ، وعدم الإستفادة من أبْنائهِ وخيْراته وخبْراته ، والأسوء من كلِّ ذلك ما حدث من تشوّه للأنْفُسْ والضمائر .. عند غالبية البُسطاء والمقْهورين .. فى كل الشرائح الإجتماعيه . ( عفواً ) .. لقد استمرّت صبريّة عندنا حتى تزوّجت وسافرت مع زوْجها الذى كان يعْمل سائقاً لدى إحدى الشركات فى دولة من دول النّفط ، وأنجبا ثلاثة بنات وولد .. تعلّموا حتى حصلت الكبرى على ليسانس فى اللغة العربية والوسطى على بكالوريوس التجارة ثم الصغرى على بكالوريوس التربية الرياضيه ، وكان أصغر أبنائهم ولداً تخرج بتفوق من أحد أقسام اللغات بكلية الآداب ، وعَمِل فى أحد المنظمات الدوْليّة التابعة للأمم المتحدة فى چنيف ، وجميعهم تزوّجوا وأنجبوا ، وأضافوا إلى مصر نماذج مُشرّفة لمقْدرة هذا الشعْب العظيم .. على التعامل بصبر وكفاح مع حركة الحياه .. مهما انْتكست إدارته .. أو ساء أداؤها . أفلا يسْتحق ( الآن ) هذا الوطن بأفكار وسواعد أبنائه أن يتسلّموا مقاليد العِزّة والقوة والكرامه .. وأن ينعم ( قريباً ) بحياة المجد والرِّضا والرّخاء ؟؟ !! . المصدر :- جريدة الأهرام المصرية ( أول أيام عيد الأضحى المبارك ) بتاريخ 6 - 11 - 2011.