أكد الداعية الدكتور أنس عطية الفقي أن التحقق بالتوحيد وبشهادة الوحدانية، يتطلب التسليم لأمر الله، والرضا بقضائه، والصبر على ما يبلونا الله به في هذه الحياة. وقال في خطبة الجمعة أمس من فوق منبر مسجد طارق بن زياد بمدينة السادس من أكتوبر، إن إرضاء غرور النفس آفة كبرى تجعل الإنسان بعيدا عن ربه، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وأشار إلى أن إعمار الأرض مقصد شرعي بدليل قوله تعالى "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (هود : 61)، وأن هذا الإعمار وهذا الإصلاح لن يتأتى إلا بالعمل الذي وصفه ربنا تبارك وتعالى بلفظ "الأحسن" في قوله تعالى "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور" (الملك: 1 2). ولفت فضيلة الدكتور أنس الفقي إلى أنه مهما تقدمنا في هذا العمل "الأحسن" فلا ينبغي أن نركن إليه أو نتكل عليه وننسى خالقنا، بل نحسن العمل ونتوكل على الله في كل أمورنا، قال تعالى "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش العظيم" (المؤمنون: 115 116 ). وحين فهم المسلمون الأوائل هذه المقاصد، وعملوا بها في حياتهم، أعطاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.. إذ حكموا الأرض بعد أن فتحوها فتحاً مبيناً مباركاً.. فتحاً حافظ على كرامة الإنسان ( ماله، ودينه، وعقله، ونفسه، وعرضه)، باعتباره خليفة الله المكرم في هذه الأرض، قال تعالى "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء: 70). وقال إن من أسباب فساد المجتمع: إهدار طاقات أفراده، وتوجيهها إلى ما لا نفع فيه. والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف المدللة على أن حلول الإسلام وآراءه الإصلاحية دائما وأبدا واقعية ومنطقية وميسرة، فهي ليست حلولا خيالية، وليست وهما زائلا، أو سرابا خادعا. عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عطاء فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما في بيتك شيء؟ " قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه فقال : " ائتني بهما " ، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : " من يشتري مني هذين ؟ " قال رجل : أنا آخذهما بدرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يزيد على درهم ؟ " مرتين أو ثلاثا ، فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين . فأعطاهما إياه ، فأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري ، وقال له : " اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فائتني به " فأتاه به ، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال : " اذهب فاحتطب وبع ، ولا أرينك خمسة عشر يوما " فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوبا ، وببعضها طعاما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع ". ومن دلائل هذا الحديث الشريف: أن الحل جاء بسيطا واقعيا فهو من بيئة الرجل وفي متناول يده . أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعالج مشكلة السائل بالمعونة الوقتية كما يفكر كثيرون . ولم يعالجها بمجرد الوعظ والتنفير من المسألة كما يصنع آخرون . ولكنه أخذ بيده في حل مشكلة بنفسه وعلاجها من واقعة بطريقة ناجحة. ونحن لا نقول لكل فقير أو متعطل عن العمل عليك بالاحتطاب كما يظن الجهلاء الذين يتصورون الدعوة الإسلامية دعوة للرجوع إلى الوراء وركوب الجمال والحمير في زمن الطائرات والسيارات . فهذه سذاجة في التفكير أو خبث في المقاصد، ذلك أن الإسلام دين واقعي يتعامل مع الواقع ولا يصطدم به ، ولا يرفضه إلا إذا كان حراما مضرا بالدين والنفس والمجتمع . أما إذا كانت وسيلة مشروعة استدعتها ظروف الحياة بتطورها المستمر فلا بأس بها ، والإسلام أول الداعين لها المتعاملين بها. وفي الخطبة الثانية، شرح الداعية الدكتور أنس عطية الفقي حكمة من حكم الإمام ابن عطاء الله السكندري تقول: (إرادتك التجريد مع إقامة اللّه إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية)، فإذا جاء من يقول: أكفي نفسي مؤنة المشاغل الدنيوية التي تقصيني عن أورادي وعباداتي، فلا ريب أنه يتلبس من موقفه هذا بنوع سمج من سوء الأدب مع الله، والتطاول بالنقد على نظامه الذي قضى أن يأخذ به عباده. ولا شك أن مثل هذا الإنسان محجوب عن الله بشهوة من شهواته الدنيوية الخفية، من حيث يحسب أنه يسعى إلى الابتعاد عن الدنيا التي تحجبه عن الله. وعلى ذلك، فالناس الذين شاء الله أن يقيمهم في عالم الأسباب عندما وَكَلَ إليهم مسؤولية رعاية الأمة في أي من مستوياتها المتفاوتة، أو الذين وَكَل إليهم رعاية الدين في مجتمعاتهم بالتعليم والدعوة والتثقيف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الذين أناط بهم عجلة الاقتصاد أو حمّلهم مسؤولية إحياء موات من أرض..هؤلاء وأمثالهم، من الذين أقامهم الله في عالم الأسباب، أي جعل منهم وسائل لمقاصد، إنما تتمثل عبادتهم لله في انقيادهم لما أقامهم الله فيه، وفي القيام بالمسؤوليات التي أناطها الله بهم، بعد القيام بالجامع المشترك من العبادات والطاعات التي خاطب بها الله الناس جميعاً. ومن الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها كثير من الناس، ما يتصورونه من أن الطاعات والعبادة محصورة في أعمال محدودة معيّنة، فإذا تجاوزها أحدهم وقع في فلك الدنيا وشواغلها!.. قال أحد الزاهدين للإمام مالك: اترك العلم وازهد لله، فرد عليه الإمام: أنت على خير وأنا على خير، وكل ميسر لما خلق له.