جلسَ القرفصاء في مكانه الذي يشعر به بالارتياح .. بالدفء ، بالأمان ، أدركَ بأنَّ شيئاً ما قد يحدث فيما بعد .. شيئاً مغايراً لما هو مألوف إنّها سيول جارفة تزيل معالم القرية ، ظلّ يتردّد بالبوح إلى أهل القرية ، خوفاً منهم بعدم تصديقه ، كما في المرة السابقة . في يوم ما أبلغهم بأن غرباناً سوداً ناعقة تمخر عباب السماء تنذر بالشؤم ، نعتوه بالمجنون ، أشبعوه ضرباً ، وعندما جاءت الغربان وعملت ما عملت أخذ الناس يعطفون عليه . البعض الآخر قال عنه : بأنّه ساحر وأنّ هذه الطيور جاءت بفعل سحره ،وفي يوم من الأيّام قال لأهل القرية : بأنّ صاعقة تنزل من السماء وتضرب القرية وتقتل بعض أفرادها وعندما صدق في قوله طالبوه بالرحيل لأنّه شخصٌ مشؤوم ، كلّ الحوادث التي أتت إلى القرية بسببه ! ترى ما هو مصيره عندما يخبرهم بهذه السيول القادمة ؟! ظلّ يخاطب نفسه : هل أنا جادٌ بأنْ أخبرهم ؟ وما هو مصيري الذي ينتظرني ؟ لا بدّ من التفكير قبل أن تقطعَ الفأسُ رأسي ! فهناك فرصة للنجاة . ظلّ يعاني ثلاث ليالٍ ، الألم يعصر قلبه وإنّ في داخله شيء متكدّس يحسّ به ، يقلقه ، مصير أبناء قريته الذين أحبهم ، تتقاذفهم المياه وهم يصرخون وما من أحد ينجيهم .. في الصباح التالي قرّر أن يبوحَ لهم بما يراوده ، فالوجع الذي يشعر به ما هو إلا امتحان عسير للقلب وتلافيف الذاكرة ، كانت السيول تكبر في مخيلته بحجم ضخم ، دفعته إلى أن يكره نفسه .. يحتقرها أكثر من ذي قبل ، توجّه إلى وسط القرية في ساحة مكشوفة ، والتي تكون ملتقىً لأهل القرية في المناسبات الدينية والتجمّعات الخطابية ، أبلغهم بالتوجّه إلى الساحة ليقول لهم شيء مهم لابدّ لهم من سماعه ، الحشد استجاب لندائه وتابع تقدّمه إلى وسط الساحة . قال : أيّها الناس أسمعوا وانتبهوا إنّ رجلاً جاءني في منامي ، أبلغني أن أخبركم بأن النهر المار في القرية سوف ينفجر بفعل السيول التي تصب فيه ، بعد أسبوع أو أكثر بأيام قليلة وأنني أبلغكم بالخبر بعد أن قرّرتُ وفكّرتُ كثيراً وحياتي لم تعد تهمني ، سواءٌ قتلت أو عشت ! الموضوع يهمكم. قال هذا الكلام وفي قلبه وجع وأكثر من غصة ، كان ضحية بائسة لشعور دخل إليه بقوّة ، القسم الكبير من أهل القرية صدّقوه لأنّه سبق وأن قال كلاماً وصدق ، جاءه رجل عملاق ترتسم في عينيه نظرة ذئبية مفترسة ، أرعبته . قال له : بصوت أجش أسمع إذا لم يحدث الذي قلته سوف أقتلك خنقاً، وراح يغرسُ أصابعه في رقبته، وبصعوبة أستطاع تحرير رقبته منه . قال آخر : وإنني سأجعل منك مسخاً لا مثيل له ! … بدأ يفكر بالحدس الذي يراوده متسائلاً : أحقيقة الذي يحدث أم أنا في كمّاشة الوهم ؟! هل الحدس صائباً كما في المرة السابقة ؟ أم يخونني وأصبح فريسة تنهشني أصابع أهل القرية ؟! لا أدري ! … بدأ الناس يجتمعون في المقاهي والبيوت يتداولون الموقف قسم يرفض والآخر يخطّط ما يتوجب عمله للدفاع عن القرية ومواجهة خطر القادم ، في الساحة تجمهر الناس وبدأ الشعراء يلقون ما عندهم من الشعر لبثِّ الحماس في مواجهة السيول القادمة ، الخطباء يلقون خطبهم في المساجد والأماكن العامة ، رفعوا اللافتات البيض كتبت عليها (نعمل سوية لندفع الخطر عن قريتنا) ، المصلون يتضرّعون إلى الخالق أن ينجيهم من هذا الخطر ، إن النداءات المتناثرة من أفواه الحشد ،القائلة نعمل متكاتفين لنتجنب وقوع الكارثة ، تلك الأصوات التي تداخلت مع هتاف الصبية وصيحات الباعة المتجوّلين تحوّلت إلى صرخات مجنونة ولكنها مرتعشة ، مرتبكة ،هذه الأرواح المتراصّة والهاتفة تدفعها الغيرة على قريتهم ، دفعته أن يهتف معهم بحماس شديد ،الخبر تسرّب إلى جميع البيوت فلم تسمع سوى عويل النسوة ، قسم قليل منهن غير مصدقات،الحركة الدؤوبة ليلاً ونهاراً جعلت الكلاب تنبح باستمرار منقطع النظير، رجل أقترح على أهل القرية أن يقوموا بتغيير مجرى النهر مسافة بعيدة عن القرية . تقدم رجل كبير السن قائلاً : إذا قمنا بتغيير مجرى النهر سوف يتطلّب ذلك فترة زمنية طويلة . إقترح أحد المحتشدين : علينا أن نبني السدود بوضع التراب في أكياس ورصفها إلى ارتفاع أكثر من ستّ أمتار على جانبي النهر . قال آخر : مستهزئاً من أين نأتي بهذه الكمية الهائلة من الأكياس لملئها بالتراب والتي تقدّر بالملايين على الأقل ! كلّ يوم يتكرّرُ الحديث عن كيفية التصدي لهذه السيول ، البعض يقترح وآخر يندّد ، إلى أن أدركهم الوقت ، أتتْ المياه وأغرقت البيوت وأهل القرية لم يعملوا شيئاً ، لازالوا منشغلين بإلقاء الخطابة والشعر …