تنتظر مريمة, الفتاة الفلسطينية, رجوع جدها بفارغ الصبر من صلاة الجمعة حتي يتسني لها سماع قصص الفدائيين و المجاهدين الذين يتخذون من الأحجار و الزلط سلاح أمام المدافع الثقيلة والأسلحة المتطورة. "و كان يا بنتي فرقة غسان المجاهد العظيم, ينتظر حلول الليل حتي يتحرك مع فرقته في طرق مجهولة من قبل العدو و كانوا يقفزون علي أسطح البيوت وسط عتمة الليل حتي يبتعدون عن أعين الصهاينة المترقبة و المتحفزة, و عندما يصلون إلي معسكر العدو كانوا يلقون في قلوبهم الرعب و الخوف, هل تستطيعي تخيل خمسة رجال يحملون في أيديهم بعض الأحجار الثقيلة و يحملون في الحقائب قنابل بدائية الصنع و عندما تنفجر أول قنبلة تجدي الضباط و العسكر يهرولون في عشوائية و الأحجار تنزل عليهم كالمطر الغزير في ليلة باردة من الشتاء" استطرد قائلاً: "و بعد مواجهات بين خمسة رجال ملأت الشجاعة و حب الوطن و كره اليهود نفوسهم و مئات من العسكر, تمركز العسكر وراء الأشجار و وراء كل ما يحميهم من أصحاب الحق الخمسة و عندما نظموا صفوفهم من جديد و يستعدون للمواجهة الثانية يكون قد اختفي غسان و رجاله بعدما أصابوا العسكر بالهلع." قالت مريمة و قد بدا عليها الفرح المستثار من جمال الحكاية: "و كيف كان حال أهالينا الفلسطينين في هذا الوقت يا جدي؟" "بعد انتشار خبر المواجهة يا ابنتي بين الأهالي أصابتهم الفرحة و غمر السرور قلوبهم و كانت تلك الأخبار هي خمرتهم اليومية يقبلون عليها بنهم و يسرفون في تعاطيها فتسري في عروقهم جذلاً و نشوة." "اتركي جدك يرتاح يا مريمة, صلاة الجمعة في المسجد الأقصي ما هي إلا عناء و تعب." قالتها أم مريمة ردت عليها مريمة: "فلتتركيني يا أمي اسمع بقية قصة المجاهد غسان من جدي!" بعد المشادة اليومية المعتادة بين مريمة و أمها حول الأعمال المنزلية التي تهملها مريمة و اهتمامها الوحيد بالإستماع إلي قصص المجاهدين و قراءة الكتب التاريخية و متابعة أحداث السياسة العامة. رجعت أم مريمة مهزومة و خائبة بعدما فازت مريمة و ظفرت بنقاط الفوز. كانت مريمة فتاة مختلفة عن بقية الفتيات, فصاحبة ال15 عام كانت متطلعة, تهتم بالسياسة و تعشق التاريخ الذي تتناوله من جدها و تحفظه عن ظهر قلب. لم يهتم أبوها بإهمالها لأعمال البيت أو افتقادها لإهتمامات البنت العادية التي دوماً ما تهتم بأعمال المطبخ و الغسيل. لكن مريمة كانت مختلفة, فعندما تراها, تري في عينيها البنت الفلسطينية ذات الشخصية القوية و الثائرة علي أوضاع بلدها الضائعة. عندما كانت تتمشي في شوارع غزة, كانت تتفكر و تتأمل و كان يدور في بالها أسئلة كثيرة لا إجابة لهم. لماذا لا نستطيع أن نعيش في بلدنا امنين؟ لماذا نحارب وحدنا؟ لماذا دائما حقنا مهضوم و شبابنا في السجون مُعذبون؟ أصبح سماع صوت الطائرات الإسرائيلية و هي تحلق فوق البيوت أمر عادي بالنسبة لها, لا تنزعج أو تشكو من علو صوت الطائرات, كانت تشير إلي الطائرات صاحبة العلم الإسرائيلي و تقول في نفسها "يوماً ما سنحرق تلك الطائرات و نضع قائديها في السجون". كانت عادتها أن ترجع إلي دارها بعد سماع أذان المغرب, لكن ذاك اليوم منعت السلطات الإسرائيلية الاذان أن يخرج من جدران المسجد الأقصي لأسباب أمنية واهية. حل الليل, و لم تعود مريمة إلي بيتها, أصاب الهلع قلب أم مريمة و كانت تهرول في البيت من شدة قلقها و هي تستنجد بأبو مريم, يصيح فيها و يوبخها و لكن القلق قد أكل نفسه, يطمئنهم جد مريمة قائلاً بصوت لم يخلو من الخوف: "إن مريمة فتاة واعية, أكيد.. تلعثم.. ثم أردف: "أكيد عائدة الأن!" ساد الإضطراب البيت, أم مريمة تبكي و تدعي الرب و هي تنتحب بأن يرجع إليها ابنتها سالمة, أبو مريمة لا يجد ما يفعله سوي السؤال عند كل أصحابها, أما جد مريمة كان يمسك بين أصابعة السبحة و يده مرتعشة لأنه كان يري في عيون مريمة قوة انتقامية تتولد و تنمو كل يوم أسرع من نمو اقتصاد الصين! في نفس الوقت كانت أغنية زهرة المدائن لفيروز تتلاعب في خلايا مخ مريمة, "الطفل في المغارة و أمه مريم وجهان يبكيان, يبكياااان" ثم يعلو صوت فيروز و يشتد "لأجل من تشردوا لأجل أطفال بلا منازل لأجل من دافع و استشهد في المداخل و استشهد السلام في وطن السلام و سقط العدل علي المداخل". أفاقت مريمة عندما استوقفها رجل كبير في السن أمامها يرتدي القبعة اليهودية, قال: "ما هو اسمك يا بنت؟" "اسمي مريمة" "ما ديانتك يا بنت؟" "أنا مسلمة" امتعض اليهودي من ردودها القوية و ثباتها أمامه و خاصة من ديانتها. "ألن تكفوا عن عملياتكم الإرهابية؟ متي ستفهموا أن اليهود أسيادكم؟" "من فينا الإرهابي يا عجوز, من يدخل البيوت في عتمة الليل و يقتل الرجال و يغتصب النساء و يشرد الشيوخ و الأطفال؟ هل تقول علينا إرهابيين بسبب أننا ندافع عن وطننا؟" قاطعها اليهودي و قال بصوت عالي: "نحن أصحاب القدس يا سارقين الوطن, نحن شعب الله المختار!!". ازداد غضب مريمة و تولدت في نفسها طاقة غِل :"لقد عاقبكم الله بسبب معصيتكم لأوامره و أوامر أنبياؤه, أنتم مكتوب عليكم عدم التجمع في وطن واحد!!". ازدادت حدة المناقشة و تجمع الناس من حولهم, ظهر رجل فلسطيني كبير في السن تعرف علي مريمة و تعرف علي الرجل اليهودي. دخل وسط الناس و قطع المناقشة الحامية قائلاً: "أسف يا سيد يهوذ, إنها طفلة صغيرة لا تفقه شيئاً!". سحب الرجل مريمة من وسط الناس و وبخها قائلاً: "كنتي ستقودين نفسك إلي جهنم الدنيا, هذا الرجل ذو نفوذ واسع و إن اشتكاكي لأي ضابط ستتعذبي أنتِ و عائلتك". قالت مريمة: "لا يهم, إنه رجل مختل كان يجب أن أعلمه بالقوة من هم المسلمين". "يا بنت, يا بنت, مازلتِ صغيرة و لا تعرفين شيئاً". "بل أعرف أكثر منك, أنت لست فلسطيني وطني". تركته مريمة, و اتجهت إلي بيتها و هي في طريقها سمعت أصوات انفجار مدوي, هرولت إلي بيتها, دخلت و جدت أهل البيت كله متكوم في ركن, عندما رأتها أمها, ركضت نحوها و صاحت فيها موبخة: "أين كنتِ يا حيوانة, موتنا قلق عليك, اعتقدنا أنكِ متِ". "أسفة يا أمي, لم الاحظ الوقت, أتأسف, ما هي حقيقة أصوات الإنفجارات؟". قال أبوها: "لقد بدأ العدو الإسرائيلي القصف الجوي من جديد". كانت الليلة باردة علي أفراد الأسرة جميعاً, فهل سيروا شمس النهار و هم أحياء؟ أم ستدخل عليهم فرقة إسرائيلية و تلقيهم في السجون؟ أم سيموتوا من صاروخ جوي يقصف البيت و من فيه؟ حل في البيت السكوت التام, حتي قطعه جد مريمة قائلاً: "فلندخل لننام, و لندعي الرب أن نصحو علي خير". البيت كان منقسم إلي جناحين, جناح شرقي و جناح غربي, الجناح الشرقي كان يخص الجد و أم مريمة و أبوها أما الجزء الغربي كان يخص مريمة و أخوها الولد الذي طال انتظاره, لكن في هذه الليلة شاركت أم مريمة فرشة بنتها حتي تحس بدفئ حضن ابنتها, أما جد مريمة و أبوها فقد ناموا في أماكنهم العادية. بعد القصف المدوي لشمال قطاع غزة, بعد هدم البيوت و انتشار كلاب إسرائيل في أرجاء الشوارع, استيقظت مريمة علي صوت انفجار رهيب و وجدت أمها تبكي و تنتحب, هرولت إلي ناحية الأخري من البيت وجدتها خراب, لم تجد سوي سقف البيت راقد فوق فرشة أبوها و فرشة جدها. تركت أمها و خرجت من البيت, التقطت حجر و بدأت في التظاهر وحدها, هتفت: "فلتسقط إسرائيل, فلتسقط إسرائيل" "تعيش فلسطين حرة". انضم إليها من نجا من القصف و بدأوا في الهتاف و تقدموا و هم يحملون الأحجار و العصي حتي وصلوا إلي دبابات العدو الرابضة في الجانب الاخر من الشارع. وقف العسكر الإسرائيلي بأسلحتهم الثقيلة و الحديثة مستعدين و متحفزين أمامهم مريمة و الأهالي مستعدون للمواجهة. و بدأت المواجهة...