حالة التسريبات الأوديو والفيديو التى انتشرت مؤخرا وأصبحت أمرا لا يدعو للامتعاض لدى الأغلبية فى مجتمعنا، تذكرنى بالضابط الصغير الذي حمل إلى السادات عام 71، أشرطة تسجيل تكشف المؤامرة التي تحاك ضده والذى حاورته صحفيا ونشرت حوارى معه على حلقات فى "نصف الدنيا" قبل عدة سنوات. الضابط الصغير الذى لولاه - كأداة لتنفيذ الإرادة الإلهية- لانتهى السادات مبكرًا، ولتغير مستقبل مصر شكلًا ومضمونًا. كانت شخصية هذا الضابط الشاب تشغلني كثيرًا، وعندما حانت فرصة ما لمقابلته تمسكت بها لإجراء حوار صحفي معه. في البداية لم يكن متحمسًا للفكرة، بعد إلحاح مني وشروط قلقة منه، على رأسها أن تكون له حرية اختيار الأسئلة التي يجيب عنها، سمح لي هذا الضابط الشاب -أصبح فيما بعد اللواء طه زكي- أن أزوره في منزله في الدقي، كان في كامل أناقته في بيت بسيط ولم تفارق المسبحة يده طوال جلستنا. كضابط جديد في المباحث العامة -أمن الدولة لاحقًا- تسلم عمله مع آخرين لمراقبة تليفونات الشخصيات المعارضة، يتم تفريغ المكالمات في تقرير، وتُسلم من مسئول لآخر، حتى تستقر عند سامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية وقتها، ثم اتسعت القائمة التي تخضع للمراقبة، قال لي إنه أصيب بالمرض، وانتشرت الحساسية في كل جسمه بسبب اضطراره إلى مراقبة مكالمات شخصيات عامة وفنانات، بما تتضمنه من أسرار عائلية وأمور لا يصح التنصت عليها أبدًا، وأنه طلب من رئيس جهاز المباحث العامة أن يعفيه من هذه المهمة، ولكن رئيس الجهاز قال له: "مستحيل..أنت الآن لديك أسرار كثيرة وخطيرة لن تخرج بها من هذه الغرفة أبدًا وستظل هنا." بعد أن تولى السادات السلطة كان واضحًا أن الجميع يتآمر عليه، وكان شعار المؤامرة "3 أو 4 شهور ونشيله ونجيب اللي يستحق". كان السادات وحيدًا تمامًا، فكل من حوله مشارك في الأمر "نائب رئيس الجمهورية، ووزير الداخلية، ورئيس مجلس الأمة، ورئيس المخابرات، ووزير شئون الرئاسة"، وكانوا على درجة من الثقة أنهم لم يأبهوا لموضوع مراقبة المكالمات؛ لأن الأمور كلها في النهاية تصب عندهم. كان نائب رئيس الجمهورية يتابع إن كان الجيش وقائده جاهزين للتنفيذ في مقابل استعدادات وزير الداخلية لاعتقال السادات، إذا ما قاوم، أما وزير الإسكان فقد أعد خطة بديلة إذا ما فشل كل ما سبق، إذ قال في أحد التسجيلات: "هاخد السادات القلعة واضربه طلقتين وبعدين نقول إنه انتحر". قلت لرئيسي المباشر: يجب علينا أن نبلغ رئيس الجمهورية، فقال: "نحن مجرد موظفين، ولولا معرفتي الشخصية بك كنت سلمتك بنفسي". ندمت على مجاهرتي بالأمر، وعندما زادت حدة المؤامرة قررت أن أنقل ما يحدث بنفسي للسادات، وكانت تلك مشكلة أخرى. جربت كل الطرق لكنها كانت جميعًا مسدودة أو ستقودني في النهاية إلى أحد المشاركين في المؤامرة، إلى أن صادفت ضابطا هو زوج إحدى شقيقات السادات، فاستطاع أن يحدد لي موعدًا. في كل خطوة كان كل شخص يسألني عن سبب طلب الزيارة، وكنت أرفض الإعلان، إلى أن وقفت أمام سكرتير السادات الشخصي، تكرر الطلب فتكرر الرفض، فقال لي: "الريس نايم"، فحملته المسئولية: "الأمر يهم الريس ومصر كلها"، فطلب مني رقم تليفوني على أن يهاتفني بأسماء مستعارة، لأن تليفون السكرتير نفسه تحت المراقبة. بعد أيام اتصل والتقيت به عند كلية العلوم، وأخذني في سيارته الخاصة، ولم يكن معي أي شرائط؛ لأنها بعد التفريغ يتسلمها مدير المكتب ويحفظها في "شانون" بأرقام سرية لا يعرفها غيره، دخلت على السادات فقال: "إيه الموضوع؟"، حكيت له فقال: "لا أحب أن أظلم أحدًا، ولو هأسمع الوشايات يبقى هأحط الناس كلها في السجن..هات الدليل على كلامك ونشوف". خرجت من عند السادات وأنا في غاية الاضطراب والتوتر، وفشلت في تقييم مدى صحة ما قمت به، وما المصير بعد أن أصبح فشلي في تقديم الأدلة أكيدًا؟ نمت وذهبت إلى العمل في اليوم التالي، فوجدت مدير المكتب يدخل عليّ قائلًا إن خالته توفيت، وأنه سيأخذ إجازة لثلاثة أيام، لكنه لا بد أن ينصرف الآن ل"يلحق الدفنة"، وطلب مني أن أغطي غيابه بأن أعطاني الرقم السري لإخراج الشرائط في حال طلبها رئيس الإدارة أو الوزير في أي وقت، وهو أمر يحدث كثيرًا، وضع كل شيء أمامي، وقال لي إنه سيغير الرقم السري عند عودته، ثم انصرف وتركني مذهولًا من تدخل القدر. أخرجت الشرائط التي تحمل تفاصيل المؤامرة، وهاتفت سكرتير الرئيس، فقابلني واتجهنا إلى السادات، أحضر جهاز التسجيل، ففوجئنا أن الأشرطة لا تعمل، لأن التراك المستخدم في تسجيلها يختلف عن تراك الأجهزة العادية، أحضرنا عدة أجهزة من عدة أماكن، لكنها لم تعمل أيضًا، تذكرت جيهان السادات جهاز كاسيت ياباني صغير الحجم، كان قد أهداها أحدهم إياه، ولكن واجهتنا مشكلة فرق الحجم، فجلسنا جميعًا وقسمنا الشرائط إلى أجزاء صغيرة، وبدأنا نستمع لها على أجزاء حتى الفجر. بدا السادات مندهشًا وصامتًا طول الوقت، يبدو أنه كان يبحث عن مخرج، وبدا لأطراف المؤامرة أن هناك شيئًا غير مفهوم يحدث، فقرروا اغتياله بيد أحد القناصة الذين تم تدريبهم خصيصًا لهذه المهمة بشكل سري في نادي الرماية في أثناء زيارة السادات لدمنهور، نقلت الخبر للسادات فألغى الزيارة في اللحظة الأخيرة، ثم بدا واضحًا بالنسبة إليه أن ساعة الصفر حانت، فأقال وزير الداخلية أولًا، ثم حدد إقامة الباقين، ثم أعلن ثورة التصحيح. أما عن المقابل الذي تقاضاه الضابط الشاب وقتها فقال: عرضت عليّ مكافأة مالية كبيرة، لكنني رفضتها، وقال السادات هذا الكلام بنفسه في خطبته الشهيرة "الضابط الصغير الذي أحضر لي الشرائط رفض أي مكافأة من أي نوع"، لكنني حصلت على ترقية استثنائية من مقدم لعقيد، ثم عملت في رئاسة الجمهورية إلى أن انتهت خدمتي. وكان آخر لقاء مع السادات هنا في منزلي، على هامش فرح ابنتي، بعدها انقطع التواصل بيننا حتى تم اغتياله.