مدينة القاهرة من أكثر مدن الشرق التي استأثرت بالكتابة والتاريخ حيث أطلق عليها لقب » جوهرة الشرق»، نظرا لأن عمرها يزيد علي الألف عام وأكثر، أبدع الكتاب والمستشرقون والروائيون بالكتابة عنها، كل منهم رأي فيها وجها مختلفا من وجوهها المتعددة المشرقة، لا يوجد رحالة أومستشرق أومغامر انطلق للشرق إلا وكتب قصة أورسم لوحة أوألف كتابا عن القاهرة، فهي واحدة من أقدم عواصم العالم، اسماها جوهر الصقلي » القاهرة» في شهر رمضان عام 969 ميلادية. صدرت كتب عديدة حول مدينة القاهرة وتاريخها، لكنني توقفت أمام كتابين لهما أثر كبير بين القديم والحديث: الأول للمستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين بعنوان» القاهرة منتصف القرن التاسع عشر، وهوجزء من مخطوط وصف مصر الذي كتبه لين أثناء رحلته الأولي لمصر والثاني للكاتب المصري مكاوي سعيد الذي مات عاشقا للقاهرة وأماكنها وحكاياتها في آخر كتاب له قبل رحيله تحت عنوان »القاهرة وما فيها». الزمن التاريخي بينهما واسع، لكن الكاتبين اتفقا علي شيء واحد : حب هذه المدينة الخالدة.. التي كتبا عنها تاريخا سيبقي علي مدد السنين، مهما زاد اتساعها وإمتدت علي خريطة التاريخ. في كتاب إدوارد وليم لين »القاهرة منتصف القرن التاسع عشر» الصادر ترجمته حديثا، عن الدار المصرية اللبنانية، من ترجمة د. أحمد سالم سالم ومن تقديم ستانلي لين بول أبن أخت المؤرخ إدوارد وليم لين، ينقلنا الكاتب إلي الحياة في مصر القديمة، والتماهي مع كل تفاصيلها وحكاياتها، بداية من النشأة بعد الفتح العربي، وحتي عام 1847م، ذلك التماهي الذي عاشه لين بشكل فعلي مع القاهرة القديمة وحضارتها، في عام 1833م، حين استقر بشكل رئيسي في القاهرة.والتي ألهمته حكايات ألف ليلة وليلة للكتابة عنها. ينقسم الكتاب إلي عشرة فصول، حاول المؤلف بإيجاز في أول فصلين منها ذكر أهم ما يتعلق بنشأة المدينة، وتطور حواضرها القديمة، التي تتابعت منذ نشأة الفسطاط، مرورا بالعسكر والقطائع حتي إنشاء القاهرة، ثم تطورها وامتدادها بعد ذلك في العصرين الأيوبي والمملوكي، اعتمادا علي ما ذكره المقريزي. ومن الفصل الثالث بدأ في وصف المدينة الحديثة، بداية من بولاق الميناء التاريخي علي النيل، وحتي المدينة نفسها بأسوارها وأبوابها، ومن الفصل الرابع أخذ في تقسيم ما سيتم تناوله داخل المدينة، بداية من قلعة صلاح الدين وتأسيسها، وأهم المباني التي تشتمل عليها، ثم شوارع المدينة ودروبها وحاراتها ومتاجرها ومنازلها وأسواقها، يلي ذلك أهم المساجد داخل المدينة، ثم أهمها خارج المدينة، وفي الفصل الثامن تحدث عن المقابر والجبانات، وأفرد الفصل التاسع عن جزيرة الروضة، واختتم الكتاب في الفصل العاشر بالحديث عن مصر العتيقة وأهم مبانيها القديمة كجامع عمروبن العاص وقصر الشمع. لقد نقل »لين» من خلال فوتوغرافيا الكلمات ملامح قاهرة منتصف القرن التاسع عشر، حيث مفترق الطرق بين الأصالة والحداثة، راصدا شوارعها وحواريها،ابوابها وأسوارها مساكنها ومساجدها وأسواقها،وحتي حصونها ومقابرها،جاعلا هذا الكتاب مرجعا مهما لكل باحث أومطلع علي مدينة القاهرة. وعلي صعيد أوسع وأشمل يعتبر سجلا لتاريخ القاهرة الإسلامية التي ساهمت في تشكيل وتأسيس الحضارة الإسلامية منذ تأسيس الفسطاط في القرن الأول الهجري علي الرغم من وجود مدن إسلامية أخري مثل بغداد إلا أن القاهرة ظلت محط اهتمام الباحثين والدارسين والرحالة والمستشرقين منذ وقت مبكر من العصر الحديث. القاهرة وما فيها علي الجانب الآخر التقط الروائي والكاتب الراحل مكاوي سعيد حكايات وأماكن وأزمنة القاهرة في الوقت الحالي ليضمها كتابه الأخير الذي صدر تحت عنوان » القاهرة وما فيها» حكايات، أمكنة، أزمنة»، عن الدار المصرية اللبنانية بعد رحيله بأيام. طرح مكاوي سؤالا في مقدمة كتابه: لماذا القاهرة؟ وقد كتب عنها آلاف الكتب والدراسات من مصريين وأجانب في العصر الحديث، ثم يجيب في السطور التالية هل لأنها من أكثر المدن تنوعا ثقافيا وحضاريا، حيث مرت بالعديد من الحقب التاريخية ولاتزال باقية بها آثار شتي من معالم العالم القديم والحديث. يكشف مكاوي بين سطور كتابه عن حبه للقاهرة: »أنه أحب القاهرة لأنه ولد فيها وخاصة في منطقة وسط البلد التي عشق أماكنها وتاريخها وأرواح ساكنيها الراحلين التي تجوب طرقها وأسبلتها كل ليلة». الكتاب لا يتناول أحداثا تاريخية بعينها ولا حوادث سارة أومفجعة بذاتها،إنما هويجري كمياه المطر كيفما اتفق،بما تحويه من مقالات وتدوينات الكتب والأخبار، وما كتبه الأجانب والمصريون والمتمصرون عن القاهرة في عهد الفاطميين وعن القاهرة الخديوية، وعن السلاطين والملوك فيما قبل ثورة يوليو1952 وفيما حدث بعدها وصولا أحيانا إلي عصرنا الحالي، في السياسة والفن والمعمار والطرائف والحوادث المفجعة، عن فنانين أحببناهم كالريحاني وأم كلثوم ومحمد فوزي وبيرم التونسي ومحمد كريم وآخرين.. عن المسرح المصري منذ نشأته الأولي والسينما التي دخلتها قبل أي بلد أخر في الشرق الأوسط الكتاب لا يحمل إدانة لأحد، بقدر ما يقدم حوادث حدثت بالفعل بأدلتها التي شكلها وجه القاهرة المبهر الذي يعرفه العالم كله. الكتاب يتضمن معلومات قد لا يعرفها الكثيرون، وصورا نادرة للتدليل علي أهميتها وقيمتها.