زهور تفتحت عيناها علي الوجع ، ملائكة قدر لها أن تعيش وسط البشر ، قلوب خضراء لم تذق طعم الحب ، أرواح مرتجفة لا تعرف شاكلة الأمان ، قوارب من ورق تصارع أمواجا عاتية ، أبرياء رأوا الوجه القبيح للحياة قبل ان يروا ابتسامة أمهاتهم ، هلكهم السقيع قبل ان ينعمو بالحضن الدافئ ، إنهم الأيتام الذين كشرت لهم الحياة عن أنيابها باكرا ، فمنذ اللحظة الأولي لهم في الحياة وهم يدفعون الثمن لذنب لم يقترفوه، فرض عليهم الصراع مع ظروف لم يختاروها ، هؤلاء المحرومون من عطاء الأم ومن امان الأب ، ومن دفء الأسرة ومن قبول المجتمع ، يتحسسون الحنان ، ويشتاقون لرائحة الحب ، ينتظرون الجمعة الأولي من كل ابريل ليتذكرهم ذوو القلوب الرحيمة ، وما ان تنقضي ساعات هذا اليوم ، سرعان ماتعود تلك العصافير المسكينة لأقفاصها مرة اخري ، يشاهدون المجتمع من خلف قضبانه ، وبالرغم من ان بعض الدارات تحظي برعاية كبيرة لهؤلاء الأطفال وتوفر لهم اغلب إحتياجاتهم ، إلا ان الإحتياج الأكبر مازال ينقصهم ، فاحتياجهم للعطف والحب والأمان لا يمكن تعويضه في جمعة واحدة في العام !.. »الأخبار« قضت يوما كاملا في إحدي دور الأيتام التابعة لجمعية الأورمان ونقلت قصصا ومآسي هؤلاء الاطفال ، موجهة رسالة إلي الحكومة والمجتمع برعاية هؤلاء الاطفال والعمل علي دمجهم في مجتمعهم بدلا من الاقتصار علي العطف عليهم بالاموال والهدايا. كانت البهجة تشرق علي الدار منذ أن دخلنا إليها فقد ملأت البالونات اسواره ، وتناثرت شرائط الاحتفال المولونة يمينا ويسارا ، وعلت اصوات الأغاني وضحك الفتيات وحديثهن ، كانوا يحتفلون بمعرضهم الذي يقام كل ثلاثة اشهر ، تعرض به ثمار مواهب فتيات الدار ، جانب من المعرض به لوحات ابدعت فتيات الدار في تصميمها واختيار ألوانها ، وجانب يشمل منضدتين عريضتين ، احداهما يعرض عليها المفروشات التي قامت الفتيات بتصميمها ، والأخري يعرض عليها حلي وعقود وسلاسل واساور جميلة مشغولة بالخرز والفضة، قد لا تصدق ان كل هذا الإبداع خرج من هذه الأيدي البسيطة ، استقبلنا فتيات المعرض استقبالا بالغ الحفاوة ، بعضهن من ذوي الاحتياجات الخاصة واخريات معافيات يتراوح سنهن مابين الخمسة عشر عاما وحتي الثمانية والعشرين ، كن يستعرضن مشغولاتهن بطريقة مبهرة يشرحن كل قطعة ومدي جودتها ومتانتها وكيف تم تصنيعها والمواد المستخدمة في تطريزها كأمهر مندوبي التسويق. اكبر فتيات المعرض «هبة» لديها 28 عاما دخلت الدار وهي رضيعة وقضت عمرها بأكمله فيه ، وبالرغم من كونها من ذوي الاحتياجات الخاصة إلا انك قد لا تشعر بذلك من فرط نشاطها وحماسها وبهجتها ، تقول هبة منذ سنوات طويلة وانا اعشق عمل «الإكسسوارات» البسيطة وكنت اقوم بصنعها من ابسط الأدوات حتي انني كنت احتفظ ببقايا اشيائي القديمة وابتكر منها عقدا جديدا ينبهر كل من يراه ، وحين لاحظت امي بالدار هذا بدأت تحضر لي الأدوات اللازمة لصناعة هذه العقود والأساور ومع الوقت وتوافر الإمكانيات اصبحت متمكنة في تصنيع هذه الاشياء واتفنن في إظهار جمالها بتداخل الألوان المبهجة مع بعض وإستخدام الأحجار والفضة ، ثم اصبحت اعرض هذه المشغولات في كثير من المعارض التي تقام ، وكنت في قمة سعادتي حين وجدت إقبالا كبيرا عليها. وتضيف نسمة كنت لا أجيد عمل المفروشات ولكنني احاول التعلم مع فتيات الدار ، ولكنني مع الوقت بدأت انجذب لها جدا ، واشعر انها صديق مسل ومفيد في أوقات الفراغ ، وفوجئت بنفسي بعد وقت انني اصمم اشكالا لم اتخيل انني استطيع تصميمها يوما ، وافرح جدا حين تلقي تصميماتي إعجاب الناس كما انني دائما ما اهادي منها صديقاتي وخاصة المقبلات علي الزواج. ملائكة تتألم ! قضينا وقتا ممتعا مع فتيات المعرض صانعات البهجة والمرح ثم تركناهن واصطحبنا احدي مشرفات الدار للصعود إلي الطوابق العلوية ، كانت الدار مقسمة لأكثر من طابق ، يضم كل منها فئة تختلف عن الأخري احداها للرضع ، والآخر لذوي الاحتياجات الخاصة ، كان الوقت الأصعب رغم متعته هو زيارة الأيتام الرضع ، مهما حاولنا وصف الألم الذي ينتابك فور رؤيتك لهذه الملائكة فلن تسعفنا الكلمات ، ورغم كم الأسي الذي يحمله هؤلاء الصغار في قلوبهم البريئة ، إلا انه من الصعب ان تنظر لأحدهم دون ان يبتسم في وجهك ابتسامة تبعث في نفسك الطمأنينة ، بل تخطف قلبك رغما عنك. تضم الدار اطفالا منذ اليوم الأول وحتي ثلاث سنوات ، جميعهم يشبهون الملائكة في جمالهم وبرائتهم ومرحهم وحبهم للزائرين ، المدهش في الأمر ان الصغير دائما ما يهاب الوجوه الجديدة ويفر منها مختبئا في والدته ، اما هؤلاء فكأنهم يعرفوننا منذ زمن بعيد ، يرحبون بنا مثل ترحيب الكبار بضيوفهم ، يتمتمون بأصوات تشبه نداء العصافير ، يتشبثون بنا كأننا من ذويهم ، لا تدري حينها إن كان هذا مفرحا ام محزنا ، لا تدري كيف يستطيعون ان ينشروا كل هذا الحب وهم لم يتذوقوه منذ ان عرفوا الحياة ، ساعات طويلة تمر عليك بينهم دون ان تشعر بها ، وكلما هممت بالانصراف وجدتهم يتمسكون بك اكثر ، فلا تستطيع تركهم ، يتفننون في لفت انتباهك بابتسامات بريئة وصيحات غير مفهومة وتمتمة تذيب قلبك ، يختطفونك من بعضهم ، حتي انك تحتار بينهم تكاد لا تعرف بمن تهتم ولمن تضحك ومن تلاعب ، لا تستطيع ان تغالب دموعك رغم محاولاتهم في إضحاكك ، تشعر وكأنهم هم من يمنحونك الحنان قبل ان تحاول انت ان تحنو عليهم. فهد .. لم يتجاوز عمره العامين ، منذ ان دخلنا اسرع ناحيتنا يحتضننا بشدة كأنه كان ينتظر عودتنا من سفر طويل ، هذا الحضن الصغير هو الأكثر اتساعا من عالمنا الضيق ، سحبني من يدي ناحية غرفته ليريني مقتنياته الثمينة ، وبمنتهي البراءة والرقة حمل حصانه الصغير كي يجعلني أراه ، ثم أعاده مرة اخري لسريره ، ووضع رأسه علي الوسادة وسحب عليه الغطاء ، هذا المشهد جعلني اتساءل كيف تعلم هذا الطفل ان يمنح ما حرم منه ، وكيف يتعامل مع دميته بكل هذا الحنان الذي لم تمنحه له والدته ، كيف يعطي دروسا في العطاء والحب وهم الأكثر احتياجا له. الثمن القاسي وكان من بينهم «ياسين» الملاك الذي عمره ثلاثة ايام فقط انضم حديثا إلي الدار بعد ما قدمته الشرطة لهم إثر بلاغ مقدم بالعثور علي رضيع في احد الأزقة ، كان ياسين نائما ، يتألم في نومه مثلما يتألم الكبار ، بدت علي جسده اثار جروح وكدمات من الغالب ناتجة عن ما ذاقه في يومه الأول في الحياة ، رغم صغر وجهه الذي لا يتعدي قبضة اليد ، إلا ان ملامحه تحكي وجعا كبيرا ، لا تدري كيف تحمله هذا البريء الذي لا يعلم كواليس مأساته وتفاصيل ليلته التي قضاها بمفرده في العراء سوي خالقه ، لا تعلم ماذا اقترف هذا الصغير ليدفع ذلك الثمن القاسي ، وبأي ذنب ألقي وحيدا وهو مضغة لم يشتد عودها ، لا تدري اي قلب هذا الذي تحمل ان يلقيه كالقمامة ، وقد ينفق غيره كل ما يملك ليحصل علي ظفره ، وعلي السرير المجاور لياسين جلس أنس يتأملنا من بعيد ، يضج المكان من حوله بصياح أقرانه ولعبهم وهو ثابت لا يحاول المشاركة ، بدا علي رأسه التضخم الشديد مما أثقل جسده في الحركة ، اقتربنا من انس وحاولنا مناوشته كي يشاركنا اللعب ، ولكنه لم يستجب ، والتصق بأمه البديلة حيث اخبرتنا انه انضم للدار منذ عامين ونصف كان حينها عمره اياما معدودة ، وكانت حالته خطيرة ، حيث كتب الله له عمرا جديدا ، يعاني أنس من تضخم بالمخ وتراكم مياه عليه ، وقد اجريت له عمليتان جراحيتان حتي استقرت حالته ، ولكنه يحظي برعاية خاصة عن بقية اقرانه ، كما انه سيجري عملية اخري بعد شهور حتي يكتمل شفاؤه ، ولذلك فهو دائما ماينطوي في سريره، لا يشارك اقرانه اللعب واحاول من وقت لآخر ان اجعله ينخرط معهم حتي لا تسوء حالته النفسية ولكن دون اجباره علي ذلك ، ودعنا الأطفال بصعوبة بالغة ، حيث تمسك اغلبهم محاولين إقناعنا بلطفهم البريء بالبقاء معهم ، حتي ان فهد تشبث بنا ، الأمر الذي يمزقك وجعا وحسرة عليهم. وانتقالا للأيتام ذوي الاحتياجات الخاصة لم يختلف الأمر كثيرا عن ذويهم في الطوابق الأخري ، من حيث مستوي الخدمات المقدمة لهم ووسائل الترفيه والمعيشة ، ولكنهم يحظون برعاية اكبر نظرا لحالتهم الصحية ، وبالرغم من سوء حالتهم التي جعلت البعض منهم راقدا علي كرسي متحرك تعطلت اغلب وظائفه ، إلا انهم بدا عليهم المجهود المبذول معهم للتواصل مع المحيطين بهم ، فهم يحاولون مد يدهم اليمني للسلام ، كما يلقون علينا بقبلات بالهواء كنوع من ابداء الحب والترحاب ، والمؤلم انهم يعافرون لفعل ذلك ، وبجانبهم الأمهات البديلات يحنون عليهم ويشجعنهم علي فعل ذلك بالتصفيق والكلمات الطيبة ، فيشتد حماسهم ويعافرون اكثر في محاولة الابتسام وإلقاء القبلات ، لم نستطع محاورة احد منهم لأن أغلبهم لا يتحدثون ولا يجيدون التخاطب. نظرة المجتمع وإلي دار الفتيات المجاورة لدار الملائكة كان الأمر مختلفا واقعه ، فقد كانت اغلب الفتيات اللاتي تقابلنا معهن في العشرينيات ، تكيفن مع الواقع وتقبلنه واختارن طريقهن رغم صعوبته ، كانت السمة المشتركة لكل الفتيات اللاتي تقابلنا معهن هي الوعي حيث بدا في كلامهن انهن واعيات مدركات لما لهن وما عليهن من حقوق وواجبات ، دخلنا لإحدي غرفهن بعد ان استأذناهم بالحديث ورحبوا بذلك ، جلسنا نتحدث معهم عن حياتهن بالدار ومشكلاتهن وخاصة انهن الفئة التي اندمجت في المجتمع وخرجن للدراسة وممارسة الطقوس الحياتية ، لم تظل حياتهن مقتصرة علي الدار او مدارسه فقط. كانت «ن ، س» اولي الفتيات اللاتي التقينا بهن ، فتاة جميلة ومبهجة تبلغ من العمر 18 عاما ، لديها احلام عريضة في دنيا اضيق من ثقب المخيط ، كانت تحاول طوال حديثها تجنب الحديث عن يتمها او حياتها بالدار ، كأنها تريد ان تتناسي ذلك ، فكلما حدثناها عن اي مايمت بصلة لهذا الجانب المؤلم من حياتها ، راوغت بالحديث عن يومياتها بالجامعة واحلامها بالعمل وماتريد ان تفعله ، هي في عامها الثاني في معهد السياحة والفنادق الذي اختارت الالتحاق به بنفسها ، حيث انها تحب هذا المجال كثيرا ، قائلة « احب دراستي كثيرا ، وحصلت علي تقدير جيد جدا في عامي الأول وبمشيئة الله سوف يكون تقديري هذا العام إمتياز ، واحلم ان اكون مضيفة طيران ، حيث يعجبني كثيرا طبيعة عملهم الذي يجعلهم كل يوم في بلد من البلدان حتي يزوروا العالم بأكمله ، وانا احلم بهذا الإنطلاق ، وتكمل حديثها ضاحكة « لا ادري ماالارتباط الغريب بيني وبين الطائرة منذ طفولتي ، حتي انني كنت ارسمها دائما علي جميع كتبي وربما لأنها رمز للحرية في مخيلتي !. وتضيف «س ، م» 16 عاما طالبة بالثانوية العامة « انا لا اكره حياتي بالرغم من كل الصعوبات التي تواجهني بها ، فقد انعم الله علي بأن اعيش في مكان آمن أجد به من يرعاني ويحبني ويهتم بشأني دائما ، كما انني دائما مااسعي لتطوير ذاتي ، وان اكون عضوا نافعا ومنتجا في مجتمعي ، لا اريد ان اظل اندب حظي طوال الوقت ، واتحجج بظروفي ومافعلته بي الحياة ، ودائما مااحاول نصح اخوتي بالدار بهذا ، فنحن لم نختر ظروفنا التي نشأنا بها ، ولكن من حقنا اختيار مستقبلنا بأيدينا ونحن من نقوم بصنعه ، مضيفة.. احلم بأن يؤهلني مجموعي للإلتحاق بكلية الهندسة ، فأنا اري نفسي في هذه الكلية واتمني ان اكون مهندسة ناجحة ذات شأن وقيمة ، وهو الحلم الذي يراودني دائما وأسعي لتحقيقه. أذي نفسي أما «ن ، ي» 20 سنة طالبة بكلية التجارة تقول أحب هذا المكان كثيرا رغم قسوة النظرة إليه من الخارج ، بينما هو من الداخل يضج بالحب والعطاء والمعاني النبيلة التي قد لا تكون موجودة في كثير من البيوت ، لم اخجل يوما انني من فتيات دار الأورمان بل افخر بذلك رغم ما ألاقيه من اسي كلما عرف احدهم ذلك ، ولا انكر صعوبة الخروج للمجتمع والإندماج فيه علينا ، فهو امر ليس هينا علي الإطلاق ولو ادعت إحدي اخواتي ذلك ، فكل منا عانت بطريقتها ، وكل منا عانت كثيرا من الوجع في رحلتها للإنخراط بالمجتمع ، ولكن كنا دائما ما نهون علي بعضنا ، وتسندنا في ذلك امهاتنا البديلة حيث دائما ما يخبرننا اننا افضل بكثير من فتيات عشن وسط اسرهن ولم يتمكن من النجاح وغيرهن لم يجلبن لأهلهن سوي التعب والمصائب رغم كل ما فعله هؤلاء الأهالي لهن ، هذه الكلمات كانت هي المنقذ في حالات الضيق الشديد ونوبات الاختناق التي تنتابنا بعد كل أذي نفسي نتعرض له في الخارج. دائرة مغلقة والتقطت زينب منصور احدي الأمهات البديلة للفتيات بالدار طرف الحديث قائلة اكثر مانحرص علي تعليمه للفتايات هنا هو الثقة في انفسهم وعدم الإحساس بالنقص في اي شيء ، بالإضافة لترسيخ الثوابت داخلهن التي تحدد الصواب من الخطأ ، لتكون هذه الثوابت هي المعيار الأساسي لتقييم افعالهن ، وليس اي شيء آخر ، كما اننا نعلمهن عدم الاختلاط سوي بالقليل جدا ممن يثقن بهم ويصلحون لأن يكونوا اصدقاء داخل دائرة مغلقة لا يمكن اختراقها ، وهذا لتقليل حدة الأذي الذي قد يتعرضن له مع كل فرد جديد ينضم لحياتهن ، وهو ماحدث مع كثير منهن حين تعرضن لمواقف جارحة من بعض زملائهن بعد ان عرفوا انهن ينتمين لدار ايتام ، الأمر الذي يكون له اسوء الأثر في نفوسهن ، كما يؤثر علي حماسهن ونشاطهن ، ولذلك فأغلب فتيات الدار يلتزمن بهذا المبدأ في التعامل مع المحيطين بهن ، كما ان اخلاق فتيات الأورمان نتفاخر بهن دائما امام الجميع ، حيث يضرب بهن المثل في الأخلاق والتفوق والرقي في التعامل ، وهو ما ننصحهن دائما للتفاخر به دون الإلتفات لمضايقات الآخرين.