لم تكن تلك هي المرة الأولي التي تستضيف فيها قاعة العرض الرئيسية بكلية الفنون الجميلة بالزمالك أحد المعارض الفنية التشكيلية، إذ اعتاد الفنانون لا سيما من أساتذة الجامعة إقامة معارضهم بها، لكنها كانت المرة الأولي التي تستضيف القاعة معرضا لطلبة الكلية، والذي أقيم مؤخرا تحت عنوان »سجلات بصرية» بمشاركة سبعة من طلاب الفرقة الثالثة وبأعمال تنوعت بين التصوير والرسم والنحت والتجهيز في الفراغ. إذ قرر الفنانون المشاركون التمرد علي القوالب النمطية وتحدي كثير من القواعد الأكاديمية التي لا تأتي أحيانا في صالح المنتج الفني من وجهة نظر بعضهم، ليطلقوا العنان لتجاربهم الذاتية بعيدا عن المهام المطلوبة منهم داخل أروقة الكلية. وقد وصف د. مراد درويش المعرض بكونه سابقة جديدة ومختلفة، مضيفا لقد وقع اختيارهم علي قاعة العرض الرئيسية بالكلية؛ لتكون هي المنطلق لأفكارهم المتدفقة والثائرة، في تحدٍ يثبت جدارتهم بوضع أسمائهم بجوار عظماء الفن التشكيلي ممن سبقوهم في هذا المضمار، وبرغم حداثة سنهم لكنهم أصحاب فكر فني متحرر ورؤية تشكيلية واعية وبصيرة نافذة داخل مكنونات وبواطن مفردات التعبير الفني، كل هذا يسكبونه بأحبارهم وألوانهم علي الأسطح ويجسدونه نحتًا وتشكيلًا بالخامات المختلفة، في وحدة وتكامل وتفرد. ومن فنان لآخر كانت الدهشة تتزايد، إذ إنهم قدموا منتجا فنيا ثريا وناضجا، كثير منهم فكر خارج الصندوق، فربما كان صندل الفنان محمد سيد أحمد هو أكثر ما يثير الدهشة بين الأعمال المعروضة.. إذ تحول الصندل إلي عمل تجهيز في الفراغ بعد أن وضعه الفنان الشاب في فاترينة زجاجية علي غرار مقتنيات المتاحف، وكتب علية الصندل الخاص بالفنان محمد سيد، يضحك الفنان الشاب قائلا: لقد كان هذا الصندل مثار سخرية بعضهم في الكلية لأنني كنت أرتديه كثيرا وكان هذا محل تعليقاتهم اللاذعة، فقررت أن يتحول هذا الصندل لعمل فني، مضيفا: لن أرتدي هذا الصندل بعد الآن وربما بعد عدة سنوات بعد أن أصبح فنانا مشهورا، سيكون له قيمة مادية كبيرة، كما نري في ملابس الأمراء والملوك في المتاحف. من جهة أخري يرتبط هذا الصندل بذكريات الكلية فهو ينتمي إلي فترة وجودي بها وأنا أحاول تخليد تلك الفترة من خلال هذا العمل. إضافة لذلك فنحن لا ندرس في الكلية أعمال تجهيز في الفراغ فأحببت أن أفتح سكة لذلك النوع من الفنون داخل الكلية. ولم يكتف الفنان الشاب بهذا العمل وحده بل رسم الصندل في لوحة هي الأكبر بين مجموعته المعروضة، وعمد إلي عكس لون الظل إذ رسم الظل بلون فاتح جدا مفسرا: الناس اعتادت أن يكون الظل هو الغامق، الأمر الذي يشبه أراء الناس السلبية، ولكن حين أعكس اللون فإنني أيضا أعكس الفكر الشائع، لأن أراء الناس السلبية لم تكن بهذا السوء في تأثيرها عليّ بل علي العكس كانت بمثابة حافز وتحد.. والأمر ككل له علاقة بفكرة المظهر في مقابل الجوهر، فهناك ناس تحكم بالمظاهر. ويبدو أن مجموعة الأعمال التي قدمها الفنان محمد سيد تنتمي في الغالب لعالمه الداخلي، إذا قدم مجموعة من اللوحات التي حملت عنوان »صورة شخصية» ليرسم نفسه مرة بعد مرة في بورتريهات ذاتية ، لكنها لا تحمل ملامحه بأي حال من الأحوال، إذ يرفض أن يرسم البورتريه بالطريقة المعتادة، قائلا: أردت أن أعرف الناس بنفسي ولكن ليست بالطريقة المعتادة ، فأنا ضد فكرة رسم الشبه .. الحالة والمكنون أهم بكثير .. أردت أن أعرض للمشاهدين تجاربي الفنية والشخصية أثناء فترة الدراسة .. أن أركز علي فكرة التجريب في الملامس والألوان، أعرض مختلف التجارب أثناء تعاملي مع اللوحة، فبعضها ينتهي بسرعة لا تزيد عن عشر دقائق وبعضها يستمر لوقت أطول، الموضوع له علاقة بالفنان والتجريب خاصة عندما أعرض حالات مختلفة لنفس التجربة وهي رسم البورتريه الذاتي، لأنها أكثر شيء ممكن أن أشعر به لأني أرسم نفسي. لوحة وحيدة مختلفة حملت عنوان »مياه صحية»، وهي تنتمي لمشروع آخر يعمل عليه له علاقة بفكرة الطبقية، ورصد الفجوة التي حدثت بين طبقات المجتمع، ولهذه اللوحة حكاية حيث يقول: كنت أتمرن بوكس مع كابتن من أمريكا، وكان ضخم الجثة، كان قادما للتو من أمريكا وكان معتادا علي شرب المياه المعدنية، وكان معي مياه من الحنفية، فأراد أن يشرب المياه العادية وعندما حذرته لم يستمع لكلامي ومكث بعدها في البيت ثلاثة أيام يعاني من آلام في المعدة، وقد رسمت محمد علي كلاي سقط صريعا وكأن زجاجة المياه هي التي صرعته . ويبدو أن الرابط الأهم الذي يجمع بين الفنانين السبعة هو فكرة التمرد علي كثير من القيود الأكاديمية وحرية الفنان التي تدفعه دوما لاختبار الجديد دون الانصياع للقواعد الأكاديمية التي تصبح جافة أحيانا، وربما هذا ما فعله كثير منهم ومن بينهم محمد صبري الذي تعمد تلوين الحجر الجيري في عمله »الدجاجة»، حيث التمرد علي فكرة احترام الخامة وعدم تلوينها المفروضة عليهم في الكلية، يقول محمد : كان هدفي الأساسي - بما أن الأعمال معروضة داخل الكلية وسيراها الطلاب والأساتذة - هو أن أخبرهم أنه ليس من الضروري أن أخضع للقواعد »الجمالية» التي نجبر علي اتباعها في الكلية كي أقدم منتجا فنيا يقدم الفكرة وينال إعجاب من يراه، كان غرضي التمرد علي فكرة احترام الخامة، لأن الحجر يعتبر مقدس عندنا في الكلية، وأنا أري أن الخامة هي التي تخضع لأمري وليس العكس، فلو أن الفكرة تتطلب تلوين الحجر فما المانع. كذلك قدم صبري عددا من الشخوص بخامات البوليستر والسلك وألوان الأكريلك، لنري أن الرابط المشترك من بينهم هو ذلك السلك الذي يخرج من رؤوسهم ، وأحيانا من جسد غير مكتمل ، حيث يرمز السلك لتلك الأفكار التي تؤرقنا والتي قد تلتهمنا حتي لا يتبقي منا شيء، كما قدم صبري مجموعة من الاسكتشات بالقلم الرصاص التي كشفت عن براعة موازية في الرسم. الفنان الشاب محمود طلعت جاء مبتكرا في الحجم الذي قدم به أعماله، حيث أعاد الفنان رسم مجموعة من الصور العائلية القديمة ولكن بطريقة مذهلة إذ لا تتجاوز الأحجام مقاس 2 سم في 4 سم، التي أراد من خلالها أن يقترب حجم الصور من الكروت الصغيرة القديمة 4*6، وهي المرة الأولي بتلك الأحجام الصغيروة جدا، وهي تجربة ستمتد قليلا ليطور منها. استخدم طلعت الرصاص، ولكنه حرص علي إضفاء ملمس القدم علي السطح من خلال تحضيره بألوان إكريليك أو شاي أو قهوة. أما الفنان أحمد نادر فقد استمد فكرة عمله من »الدراج كوين» وهم حسبما تذكر موسوعة الويكيبيديا مجموعة من الرجال الذين يرتدون الملابس النسائية ويتصرفون بإنوثة مبالغ فيها في أدوار نسائية لغرض الترفيه والتأثير الدرامي الكوميدي الساخر ويستعمل هذا الفن عادة في الكوميديا. ويري نادر أن فكرة الألوان القادرة علي خلق تحولات جذرية في الشكل في وقت قياسي هي فكرة جاذبة للغاية .. وقد قدم نادر ثمانية أعمال من الأحبار والخامات المختلطة. وبينما تدفعنا كل مجموعة لمنطقة فكرية جديدة، يطرح الفنان الشاب عمر عبد الباقي خمسة أسئلة مرتبطة بخمسة اسكتشات قدمهم بخامة الحبر علي الورق، بخلاف عملين أكبر في الحجم بالإكريلك .. معتمدا بالأساس علي اللونين الأبيض والأسود وبعض لمسات من الذهبي، حيث يقول: فكرة استخدام الأسود يتناقض مع فكرة التصوير والاستخدام اللوني الذي يميز ما ندرسه.. وكان دافعي هو أن لدي مطلق الحرية أن أقوم بأي نوع من الممارسات الفنية في هذه المساحة الأكاديمية دون قيود .. أما بالنسبة للموضوع فقد تناولت موضوع مادية الأشياء التي يؤمن بها الإنسان .. فأكبر لوحة مبنية علي قصة بني إسرائيل، وما فعلوه عندما أنجاهم الله من الموت بعد أن رأوا معجزة شق البحر، إلا أنهم مع ذلك عبدوا العجل المصنوع من الذهب، وهي فكرة الإيمان بالأشياء المادية التي نجدها ممثلة في الحلق الذهبي المكتوب عليه الله. ويطرح الفنان خمسة أسئلة، ففي اسكتش الأسنان يتساءل عن أكثر شيء يرغب الإنسان به؟ كما يطرح أسئلة أخري يرتبط كل منها باسكتش ما ومنها ماهية تلك الأشياء التي يحارب الإنسان من أجلها؟ وتلك الأشياء التي يؤمن بها الإنسان وما الذي يدفعه إليه معتقده؟ وما هو الشيء الذي يجعلونك تموت من أجله؟ وكيف يمكن أن تفعل كل شيء كي يراك الناس بأحسن شكل؟ الفنان عبد الرحمن الكومي حول المشاهد العادية التي نراها في المصايف وفي الأماكن الشعبية للوحات، وقد أراد أن يقترب من المشهد الشعبي حاليا ولكن بصورة عصرية ومن زاوية مغايرة. أما الفنانة الوحيدة في المعرض هدير عبد العظيم فقد قدمت سبعة أعمال في المعرض الذي هو الأول بالنسبة لها، وقد اختارت أن تبحث في الأثر غير المادي، كتأثير الكلمة القاسية علي الناس، وقد ركزت أيضا علي تسجيل المشاعر المختلفة عن الحب والغيرة .. وقد تنوعت الأعمال بين الزيت علي التوال وعلي الورق، وكذلك الرصاص والحبر علي ورق، وعلي العكس من باقي أقرانها قررت أن تكون لوحاتها واضحة وأن تحكي قصصا دون أن تطغي علي أعمالها الرمزية ، متأثرة في ذلك بالفن الموجود في المجلات المصورة. التفكير خارج الصندوق لم يتوقف عند التوليفة البديعة من الأعمال التي قدمها المعرض ولكنها امتدت للبوستر الذي حمل شكل مكتب تقليدي ولكن في تصميم عصري ، المفاجأة أن مصمم البوستر لم يدرس الفنون الجميلة ولكنه ممارس للفن ويعمل كفنان بصري وأسس مشروعا لتصميم البوسترات أطلق عليه اسم »رافيكي». وعن سبب اختياره لتصميم بوستر معرض »سجلات بصرية» يقول أحمد هاني: كثير من المشاركين من أصدقائي وعندما تكلموا معي تحمست جدا للفكرة لأني معجب بفنهم جدا، وأردت أن أكون مشاركا في المعرض حتي لو من خارج القاعة...وأري أن للبوستر دورا مهما للغاية، إذ يدفع الناس لحضور معرض لم يروا منه أي أعمال. يضيف الفنان الشاب: عرفت من أصدقائي اسم المعرض وهو »سجلات بصرية» وهو الاسم المستمد من فكرة السجلات المعنية بشئون الطلبة، أما بصرية فنظرا لطبيعة المنتج البصري المعروض، ولذا استخدمت صورة المكتب الذي اعتدنا أن نراه دائما في تلك الأماكن، وكررت الاسم في التصميم لأن هذا ما يحدث في المصالح الحكومية ، إذ لابد أن نكرر أوراقا كثيرة وننتقل من مكان لآخر. وعن دخوله لمجال التصميم يقول أحمد هاني : الأمر كله بدافع الحب، أحببت مجموعة من التصميمات وكان لدي فضول أن أعرف كيف يتم تنفيذها، كان لدي رغبة بأن أعمل هذا النوع من الفن. هذا الشغف بالتصميم لا يرتبط بالدراسة إذ يقول هاني : لم أتخرج بعد، تركت الكلية وأنتظر أن أنتقل لكلية ثانية لأن كليتي في بني سويف بسبب التنسيق الجغرافي، وقد تركت كلية التجارة في بني سويف كي أحول منها بهدف واحد فقط وهو »يكون معاك شهادة» وهو مطلب من عائلتي لا غرض شخصي. أما عن مشروع »رافيكي» فيقول هاني: هو مشروع أعمل عليه كفنان بصري، حيث يقوم بالأساس علي تصميم البوسترات، وهدفي من المشروع هو التعبير عن أفكار تخصني سواء علي الصعيد الشخصي أو علي الصعيد العام ، فمثلا اشتغلت علي فكرة الحروب وتأثيرها علي الأطفال واستغلالهم في الحروب والنزاعات، ورغم أنه موضوع عام إلا أنه كان دائما يشغلني بشكل شخصي ، لأني جزء من هذا العالم ومن الممكن جدا أن تؤذيني الحروب أو تؤذي شخصا قريبا مني، أما عن الموضوعات التي عملت عليها لأنها تمسني بشكل شخصي، فكنت أسجل مثلا خواطر حدثت لي بسبب قصة حب غير مكتملة، ومن الممكن أن يري الناس هذا الموضوع علي أنه أمر تافه، لكنه أمر مهم جدا بالنسبة لي وغير أشياء كثيرة في شخصيتي، ومن الجائز جدا أن يمس شخصا آخر مر بتجربة مشابهة.