قبل سنوات طويلة التقيتُ المهندس محمد وجيه عبد العزيز للمرة الأولي، كنتُ قد سمعتُ اسمه من ابنه خالد المقيم في الكويت، وعلمتُ منه أن والده الخبير الدولي في مجال النقل مهتم أيضا بالآثار، وأنه أعد دراسة مهمة عن »التأثير السلبي لضوضاء وسائل النقل علي المباني الأثرية.. دراسة مقارنة بين الحي اللاتيني بباريس والقاهرة التاريخية»، اجتذبني الموضوع وطلبتُ من خالد وجيه أن يفتح مجالا للتواصل مع والده. وبالفعل التقيته في أولي زياراته للقاهرة، حدث ذلك رغم مشاغله العديدة نتيجة إلحاح خالد، فقد كان الأخير يريد استمالتي لصفه، بعد أن لجأتْ لي صديقة تثق في مشورتي، طالبة مساعدتها في حسم رأيها في الارتباط به أو رفضه. لم يستغرق اللقاء سوي نصف ساعة، لكنها كانت كافية لانبهاري بالرجل، الذي ساهم في ضبط إيقاع قطارات فرنسا وطرقها. وعقب كل كارثة علي قضبان السكة الحديد، كنتُ أتعجب لأننا لم نفكر في الاستعانة به لحل أزمتنا المزمنة. كانت صدمة »فيديوهات» البشر المحترقين في حادث محطة مصر الأخير تسيطر عليّ، عندما ترددت أخبار ترشيحه لمنصب وزير النقل، هنا فقط شعرتُ ببعض الراحة، وخرجتُ مؤقتا من حالة اكتئاب خلّفها الحادث. نسيتُ أحزاني ووجدتها فرصة للظهور علي الفضائيات، والحديث عن وزير عالمي، أتيحت لي فرصة لقائه ذات يوم! لكن حلمي المتواضع انهار في لحظات، بعد أن اتضح أن اسم المرشح مجرد خدعة، وأنه رحل عن دنيانا قبل أعوام، كما أن المرحوم لم يكن متخصصا في النقل من الأساس! وظلت الحقيقة الوحيدة في القصة هي الاسم الذي دخل فجأة إلي دائرة الضوء، بعد أن أطلق ابنه مزحته عبر تويتر، فتلاعب بالعديد من وسائل الإعلام، وأحيا ذكري والده بطريقة مبتكرة.. ومُربكة!! حمدتُ الله أنه أنجاني من الفخ، وأعادت لي الصدمة ذاكرتي فجأة، لأكتشف أنه لا علاقة لي إطلاقا بالمدعو »خالد عنخ آمون» أو والده، كما أن صديقاتي غير مقتنعات بأهليتي للاستشارات العاطفية!! كل ما سبق إذن كان مجرد هذيان، ربما نتج عن صدمة مشاهد قاسية لم يسبق لنا رؤيتها إلا في أفلام »الأكشن»، وأدت إلي حالة من الهلوسة، عشتُها سرا بينما جهر بها آخرون في العلن، فأصبحوا »مسخرة» مواقع التواصل، التي وجدتها فرصة لرد هجماتهم السابقة عليها. وبعيدا عن تلك الكوميديا السوداء، أعتقد أننا ينبغي أن نتعامل مع تلك الفضيحة بما يليق بها، لا عبر بيانات الشجب فقط، بل بمراجعة أساليب عمل الإعلام، الذي يلهث وراء السبق دون أن يتحقق مما يبثه. والغريب أن هناك من سارعوا بصب غضبهم علي خالد، واتهموه بمخالفة القوانين، بينما غضوا البصر عن إعلاميين كبار روّجوا شائعته بعد أن نسبوها لمصادرهم المُطّلعة! وشخصيا أري أن ما فعله الرجل كان من قبيل الكشف لا التضليل، تماما مثلما كتب الراحل الكبير إبراهيم سعده قبل سنوات مقاله التخيّلي، عن تولي معارض كبير رئاسة الحكومة، وأثار جدلا واسعا دون أن يتهمه أحد وقتها بنشر أخبار كاذبة، وقد كشف صاحب »التويتة» الأخيرة الحقيقة بعد أكثر من ساعة، لكن بعد أن »وقعت الفأس في الرأس»، فاعترف البعض بالخطأ بينما صمت آخرون. وهكذا كشفت مأساة محطة مصر الخلل في منظومات عديدة، لا تقتصر علي مسارات السكة الحديد فقط، وإذا لم نتعامل مع هذا الخلل بجدية، فسوف نفاجأ بأن قضبان الموت قد تكون أهون من كوارث أخري تهدد مصائرنا، يربطها جميعا عنصر واحد.. هو الاستهتار!