حتي الآن كنتُ قد مررت وعشتُ تجارب بالغة الأهمية. أظن أنني لم أنخرط فيها بكل قوة فقط، بل عشتها بإخلاص شديد، وعلي الأخص تجربتي داخل المنظمة. وكان عمري آنذاك، أي عندما نُقلت من الوادي الجديد إلي القاهرة لم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين، وعلي الرغم من أن ما كان لدي من قصص جاهزة للنشر في كتاب، بعد أن استبعدت الكثير مما كان قد نُشر بالفعل في الصحف والمجلات، كان يمكن أن يشكّل مجموعة قصصية جيدة في رأيي، إلا أنني كنتُ وغيري كثيرون نقاطع النشر في مؤسسات الحكومة، وهي الوحيدة التي كانت متاحة آنذاك، فقد تعثرت وطوردت السلاسل القليلة جدا المستقلة مثل سلسلة كتاب الغد. هذا من ناحية من ناحية.. أخري تدافعت الأحداث وتسارعت وفاجأتني. وسوف يلحظ القارئ الذي تابع هذه السلسلة أنني تركتُ نفسي تماما، ولم يكن لدي أي خطة للمستقبل والمفاجآت المتوالية. صحيح أنني قد اخترتُ الطريق الذي سرتُ فيه وفق القناعات التي كنتُ قد توصلت إليها آنذاك، أي طريق انتمائي إلي منظمة يسارية والعمل في صفوفها بكل محبة، بكل عشق، وإخلاص، لكنني لم أختر بطبيعة الحال التداعيات التي أعقبت انتفاضة 1977، ثم هروبي..إلخ .. إلخ لا أتذكر هل هو هيمنجواي الذي عشقته في شبابي الذي كتب أن التجارب الكبري في حياة الكاتب هي الحرب والحب، ثم أضاف كاتب آخر إليهما تجربة السجن.. وكنت قد مررت بالتجارب الثلاث جميعا دون اختيار، ودون أن أنتبه لأهمية أي منها أو ضرورتها للكاتب، بل انخرطتُ فيها وعشتها. هل الأدق أنني انصعتُ وامتثلتُ لها؟ لم يكن لدي وقت للتفكير فيها وتأملها، بل عشتها وانخرطت فيها وامتثلت لها، ليس بوصفي كاتبا أبدا، ولم أكتب عن أي منها إلا بعد مرور سنوات طويلة وربما عقود. الآن وقد أشرفتُ علي السبعين، وهو ما لم أتصوره قط أو أعد نفسي له، أشعر أن ما تعرضت له من تجارب وذكرت الكثير منه في هذه السلسلة، امتثلتُ له وانصعت، ولم أفكر فيه وقتها بوصفه مادة للكتابة. علي أي حال أدين لتجربتنا- عائشة وأنا- في الوادي الجديد بالكثير والكثير، فلم يكن متصورا أن يتاح لي كل ذلك الوقت الممتد لقراءة التاريخ وعلي الأخص التاريخ الفرعوني وتاريخ العصور الوسطي والكثير من النصوص المترجمة التي عثرت عليها في المكتبات القديمة. ولم يكن من المتصور أيضا أن يتاح لي أن أري تلك السماء الفسيحة الصافية في الليل وهي تمتلئ بعشرات الآلاف من النجوم المرتعشة بالغة الصفاء والوضوح. كما لم يكن متصورا أيضا أن أشاهد تشكلات وتحولات المساحات الشاسعة من رمال الصحراء بالغة النعومة وهي تستجيب لأقل لمسة هواء.. أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل.....