أوليفيا عبد الشهيد بريشة الفنان: أحمد عبد النعيم عندما فاجأني الحوار الذي أجرته الكاتبة والرائدة أوليفيا عويضة عبد الشهيد في مجلة »الحياة»، وذلك في مطلع عقد الستينات، بعد أن فقدت الأمل في التعرّف علي مسيرتها الأدبية والفكرية، ولم أعثر علي أثر لها بعد عام 1914 في كافة الدوريات الأدبية التي في حوزتي، أو التي أستطيع أن أطلّع عليها دون حيازتها، حيث إن وسائل البحث عن مثل هذه الأسماء والظواهر العصيّة والصعبة، تكاد تكون مسألة شبه مستحيلة، في ظل انهيار وسائل الحفظ والفهرسة والتوثيق، وضياع الوثائق والكتب والمجلات، عبر عمليات سرقات صغيرة وغير مسئولة من متعاملين أفراد في الدار القومية للوثائق. يتجلّي ذلك لأي باحث عندما يذهب إلي هناك، إما أن يقال له بأن المصدر الذي يبحث عنه "في الترميم"، وهذه إجابة شبه محفوظة، وإما ألا يجد المصدر بالفعل، وكثيرا ما يجد أن صفحات وصورا قد انتزعت عنوة لو أسعفه الحظ ووجد المصدر، وهذا يستدعي انقلابا شاملا في إبداع طرق حفظ وتوثيق وتطوير للدار القومية للوثائق. لم يكن الحوار مع أوليفيا بالنسبة لي، سوي بوّابة واسعة للبحث عن الرائدة المفقودة، والتي اختارت اسما غير اسمها، والحقيقة لم تكن مجلة الحياة، هي التي انفردت بالكشف عن ازدواجية الاسم، ولكننا عثرنا علي مصدر آخر في غاية الأهمية، ولكنه مصدر يكاد أن يكون مهملا في عملية التأريخ الأدبي والثقافي، وهذا لا يعود لأهمية البحث من عدمه، ولكن للأيدلوجيا التي ظهرت علي الباحث، وهو المؤرخ والأديب أنور الجندي، والذي كتب عددا من الكتب النقدية والأدبية وفي التاريخ الثقافي، وفي كثير منها لم يفارقه البعد الأيديولوجي. وتقريبا لا يوجد غير أنور الجندي، من ذكر أوليفيا عبد الشهيد، ففي كتابه »أدب المرأة العربية.. القصة العربية المعاصرة..تطور الترجمة»، أفرد لها ثلاث صفحات كاملة!، وهذه لو تعلمون مساحة مبهجة للغاية بالنسبة لي، في ظل التجاهل التام لها، والحصار المضروب حول سيرتها ومسيرتها، صفحات تقول بأن الشاعرة والكاتبة أوليفيا تعدّ بين المجهولات فقط، وتنفي فكرة أن تكون معدومة الذكر تماما كما ظننت، رغم أن الجندي جاء بمعلومات ناقصة، أو مغلوطة، وهذا وارد في ظل غياب المصادر كما أسلفنا. يقول الجندي في كتابه : »الزهرة.. كاتبة مصرية من الأقصر، رمزت لنفسها هذا الاسم، نشرت عشرات الفصول في الصحف من وقت مبكر جدا، وكان أبرز إنتاجها المترجمات عن الأدبين الانجليزي والفرنسي (ترجمات رسائل آرثر مي)، ومن أول ما طالعناه لها في مجلة الهلال عام 1917، كما ترجمت عام 1915 طائفة من مقالات للكاتبة الأمريكية السيدة فون، وصدرت في القاهرة باسم (الاجتماعيات) بتوقيع أوليفيا عبد الشهيد الأقصرية، وذلك قبل أن تتخذ لنفسها لقب (الزهرة)». إذن فالجندي يحدد أن أول ظهور للاسم المستعار "الزهرة"، كان عام 1917، بينما كان آخر ظهور للاسم الحقيقي »أوليفيا» كان عام 1915، وربما في اعتقاد الجندي الوحيد، وربما يكون ذلك أقرب إلي الصحة، ولكن الأكيد هو أن اسم الزهرة، هو الاسم الذي صار معتمدا بعد ذلك لأوليفيا عبد الشهيد، ولكن الذي ليس صحيحا فيما جاء من معلومات عند الجندي قوله بأنها لم تكتب كتابا مؤلفا باسمها، لأنه لم يصل إلي علمه بالكتاب الأهم في تاريخ الكتب الاجتماعية، وهو كتاب "العائلة"، والتي نبّهت فيه لقضايا في غاية الخطورة، وسط تطاحنات طائفية واجتماعية وثقافية محتدمة. وكشف الجندي عن مشاركات الزهرة في مجلتي الرسالة والثقافة بين عامي 1943و1950، وهما المجلتان الأهم في تاريخ الثقافة المصرية، إذ إن الأولي تأسست عام 1939، وأسسها العلّامة أحمد أمين، بينما مجلة الرسالة تأسست عام 1933، وأسسها أحمد حسن الزيات، وقد كتب في المجلتين كل نجوم الحياة الفكرية والأدبية والثقافية عموما، مثل الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وابراهيم عبد القادر المازني والدكتور محمد حسين هيكل وغيرهم، وقد بحثنا عن مشاركات الزهرة في المجلتين، فوجدنا أنها بدأت قبل التاريخ الذي ذكره الجندي، أي منذ عام 1939، حتي النهاية المعروفة للمجلتين عام 1953، بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952، وكان الخطاب الثقافي قد تغيّر، فكان من الطبيعي أن تبحث الأصوات الجديدة المعبرة عن مرحلة جديدة، عن منابر أخري، تحمل أشكالا عميقة من الولاء للمرحلة الجديدة. تتحدث »الزهرة» عن نفسها في مقال لها بمجلة »الثقافة» في 25 ابريل 1944، وكان عنوان المقال »عناصر إيماني»، وهو مقال ينطوي بالفعل علي الفلسفة التي تنظر من خلالها »الزهرة» للثقافة وللمعرفة وللحياة ككل، إذ تقول: (لا أتردد عن المجاهرة بأني لم أدرك إلا زورا من العلم والمعرفة وإن كنت لا أدخر سعيا في التحصيل، وأستقصي الذرائع كي أوفي علي الغاية، أومن بأن الأسرة هي أعظم مقومات المجتمع، وأن الزواج فن عال وقمة خطيرة، وأن الروابط الزوجية الصالحة تتطلب الإيثار والتضحية بالنفس والتساهل والتسامح.. أنا أحب الأطفال وأؤمن بأنهم ملائكة الأرض تنقصهم أجنحة أنا أحب الحدائق من بدء الربيع إلي آخر الصيف لا أميل إلي أهل الشكوك واللاإراديين ولا إلي الذين يغلّون أعناق كلامهم المدللة، بالسلاسل الغليظة حتي يوثقوهم في حدائقهم الزهرية لحراستها..) ويبدو أن هذا الكلام الشاعري في ظاهره بسيطاً وفضفاضاً، ولكننا ندرك التجربة الصوفية بالمعني الإنساني العام التي دفعت »أوليفيا_الزهرة» لكي تكتب هذا الكلام البسيط والبديهي، ولكنه عميق إلي حدود بعيدة، حيث أنها تقول في هذا المقال الذي يشبه البيانات التي يكتبها المفكرون عن أنفسهم، إذ تقول فيما بعد: »وأتمسك بعري الإيمان الدنيوي الذي يقيّض ثقة بأخوتي البشر ، ويبعثني علي أداء حقوقهم ، لأن الإيمان هو الذي يؤكد لي أن جذوة الخير كامنة في البشر..». وللزهرة كتابات عديدة عن المرأة وحريتها وحقوقها ، وهي تري أن المرأة مرّت عبر التاريخ البشري بمجموعة مراحل مختلفة، وتكاد تكون متناقضة، أورثتها في عصرنا الحديث، بسلسلة من العوائق التي جعلتها ثائرة علي الأوضاع العديدة الظالمة، حيث تقول في دراسة مهمة لها : »أردّ تصرفات المرأة إلي الأصول البدائية التي ركزت في نفسها مركبات قوية متناقضية، تكاد تكون من الغرائز النسوية، لأنها اندست في أغوارها حقبا طويلة دون أن تدريها، فطبعت سماتها علي حياتها وإرادتها ووجهتها إلي نواح متشعبة كانت مصدرا خفية لأعمال تنفع وتضرّ علي السواء..»، وهذا الرأي بالفعل يقترب من الصواب، لإدراك الموقع النفسي والاجتماعي الذي آلت إليه عبر أحقاب بشرية متعاقبة. والذي لم يخبرنا به أنور الجندي، وربما عن عدم دراية، وليس تعمدا، هو الدور المهم الذي لعبته »الزهرة» في تطوير مجلة »فتاة الشرق»، وهي تعتبر المجلة النسوية الرابعة في الترتيب الزمني، التي تأسست في مصر والعالم العربي، إذ إنها جاءت بعد مجلات »الفتاة عام 1892»، والتي أسستها هند نوفل، و»أنيس الجليس» التي أسستها اسكندرة أفرينو عام 1898، ومجلة »السيدات والبنات» التي أسستها ماري فرح عام 1903، ثم جاءت مجلة »فتاة الشرق» التي أسستها لبيبة هاشم عام 1906، وجاءت بعدها مجلات نسائية عديدة، سوف نفرد لها حديثا خاصا، وكيف ساهمت هذه المجلات في الصحافة بشكل عام، وليس قضية المرأة وحقوقها بشكل خاص. وعندما انضمت »الزهرة» إلي مجلة »فتاة الشرق»، وكأنها وجدت لنفسها أرضا خصبة، وحقلا مناسبا لزرع بذورها البقظة والمفيدة، وسوف نلاحظ أن القضايا التي كانت تتناولها »الزهرة» تتحدث عن الأسرة والزواج والعلاقات الاجتماعية العميقة مثل الحب والصداقة والزمالة، وما شابه ذلك، حتي الفصول والكتب التي كانت تترجمها، كانت تعتني بهذه القضايا، بعيدا عن السياسة ومطباتها ومنعرجاتها العبثية في كثير من الأحيان. ففي كتاب »سوانح في السلام» لفردريك لي، وهو أحد الكتب المهمة التي نقلتها الزهرة إلي العربية، تقول في مقدتها : »اللهم، علمني أن الحياة تسع مرايا أعظم من البحث عن الصفقات الرابحة، والأزياء البارعة، والمشتريات الممتازة من المتاجر الكبيرة.. أعني، لكي أعرف أن البيت أكبر من مسكن آوي إليه، أو مطعم أنشد فيه لقمتي وقيلولتي ، ساعدني لكي أوقن أن الحب يجاوز تخوم العاطفة المشبوبة، التي تلتمس الاغتباط والاستجمام في المجتعات العالمية الساهرة والحفلات المرحة الحاشدة التي تولّد في كثير من الأحيان الموّدة المدخولة والمجاملات المنافقة الكاذبة..، وتستطرد الزهرة في انتقاد أشكال الزيف والنفاق المجتمعي، ويبدو أن الكلام لا ينحشر في الهتافات التي كانت ترفعها رائدات أخر، وتلوكها ألسنة كثيرة مفعمة بالحسّ السياسي النفعي، وهذه الملحوظة لا تخص رائدات مخلصات كن في الحركة النسائية، ولكننا نقصد السيدات اللائي جندن حركتهن لخدمة أغراض استعراضية خاصة، أو لرفعة أغراض سياسية عامة. ولأن الزهرة كانت تستعين بالكتاب الفرنسيين أو الانجليز أو الأمريكان لإيضاح وتعضيد ماتكتبه هي، فقد ترجمت عددا لا بأس به من الروايات الأدبية، والكتب الفكرية، وكلها كما أسلفنا تدور حول القضايا الاجتماعية، ففي دراسة تحت عنوان »الحب المفتقر» للكاتبة إيديت نيبيين، ترجمتها »الكاتبة المجيدة» كما كانت تطلق عليها محررة المجلة، دارت الدراسة حول قضايا مثل »الخيال والحقيقة، النفس المنفردة الموحشة، تعويضات الحب، صنائع المعروف الشافية، بعض الحكم»، وتكتب الزهرة مقدمة ضافية لهذه الدراسة التي نشرت في مجلة فتاة الشرق بتاريخ يناير 1930، إذ جاء في مستهل التقديم: »إذا كان لا يوجد في الحياة قوة فيّاضة خيّرة مثل الحب، فكذلك لا يوجد علي وجه البسيطة شئ أدعي إلي اليأس والقنوط مثل الحب إذا منح لمن لا يقدره قدره ويعرف قيمته ، والحب هو نور الوجود الانساني، وهو نفحة من الألوهية في جوهرها، والحب يفني الأجيال لا يفني ويهزأ بالزمن وتعاقب الصور»، وتستطرد الزهرة في تقديمها، لكي تقدم بانوراما روحية وتاريخية حول تطور أشكال وحالات وصور الحب. ومن الواضح أن القضايا التي كانت تتناولها الزهرة، قضايا ليست اشتباكية، رغم أنها قضايا شائكة في العمق، وليست سطحية، ولكنها تعبّر عن فلسفة ودور أرادت الزهرة أن تقوم به في مجتمعات غلبت عليها سمات العراك والصراعات المادية والسياسية. واستكمالا للمعاني والقضايا الروحية التي كانت تخوض فيها الزهرة، فهي لم تفلت مشهدا طبيعيا إلا وكتبت عنه، وتأملت تلك المشاهد، ففي كتاب لها عنوانه »البدائع والروائع»، وهو كتاب يشبه الكتب التراثية القديمة، أرادت فيه الكاتبة أن تجمع بعض ما كتبته أو ترجمته ونشرته في مجلة فتاة الشرق، ويتعلق بالطبيعة وبدائعها، وتقول في المقدمة : »حقا إن الأرض جميلة في الصحو والغيم وأنا أتطلع إلي الوجود في يوم من أيام الصيف...إننا نري في جمال الأرض المتنوع يد القدرة الإلهية التي تحول باستمرار تلك الحلة البهية الخالدة التي تغني بذكرها أعظم نوابغ الأرض..»، »إننا نعيش ونتعلّم والحياة مدرسة رافعة، ولا شك أن الأمل يعظم في نفوسنا حين تبصر جمال الأكواخ المغطاة بمعارش الزهر متسربا إلي الأحياء الكبيرة في مدننا..»، وهكذا تحاول الزهرة أن تتأمل جمال الوجود في مواجهة القبح الذي يطفح علي وجه الحياة. ولم تكتف الزهرة بكتابة الموضوعات الناعمة والتي تعني بالحب والصداقة والطبيعة فقط، بل إنها كانت تؤلف وتترجم كافة المواد التحريرية بالمجلة المتعلقة بالرائدات في كافة أنحاء الأرض العربية وغير العربية، وهذا يعني أنها مدركة للحركة النسوية في العالم،للدرجة التي دفعتها للكتابة عن رائدات نسويات في أفريقيا، قبل أن يكون هناك حضور للقارة الأفريقية علي الخريطة، وكانت مازالت أفريقيا عبارة عن مجموعة غابات وأدغال، فنجدها كتب في بابها »شهيرات النساء» عن محاولا لاكتشاف القارة الأفريقية، وقامت بالتعريف بالذين ذهبوا إلي هناك للتعرّف علي تلك القارة المجهولة والساحرة، فتقول في إحدي دراساتها : »ولعل أول من يجب أن تضفر لهن أكاليل الغار هن طلائع الجيش النسائي المقدام الذي ارتاد مجاهل أفريقيا، وهو مؤلف من ماري موفات ولادي بيكر والآنسة ماري كنسجلي، أما ماري بيكر قرينة سير صموئيل هوايت الرحالة المشهور في أفريقيا فكانت هنغارية الأصل، وذات مواهب عظيمة وإقدام هائل نحو التعلّم والتعليم..»، وعملت الزهرة في هذا الباب، علي أن تعرّف بقدر كبير من رائدات »الآفاق» كما أطلقت عليهم، وشملت هذه المساحة التي كانت تكتبها الزهرة، رائدات من انجلترا وأمريكا وفرنسا وبلاد عربية كثيرة، لتكون لدينا موسوعة للرائادات النسوية في شتي أنحاء العالم. وجدير بالذكر أن الزهرة قد مارست التحرير الصحفي في المجلة زمنا طويلا، حتي إن استدعتها مجلات أخري، ولم تكن هي مشغولة بتصدير نفسها في جمعيات نسائية، ربما تكون انضمت لهذه الجمعية أو تلك، ولكنها ظلّت كاتبة مستقلة، تكافح في مجالاتها الاجتماعية والفلسفية الخاصة، وربما تكون قد هجرت الشعر، أو عزفت عن الانخراط في كتابته، مكتفية بالترجمة لكتب رأت أنها أكثر فائدة للمجتمع والحركة الفكرية المجتمعية بشكل رئيسي، ولأنها لم تنخرط في جمعية أو حركة نسوية ذات طابع سياسي، فقد تم إزاحتها، وتجاهلتها معظم المصادر والأبحاث التي تعلّقت بالحركة النسوية، لدرجة أننا لم نلحظ أن الجمعيات أو منظمات المجتمع المدني الحديثة، والمعنية بجمع تراث الرائدات، لم ينتبهن إلي كتابات أوليفيا »الزهرة»، ربما تكون هذه الجمعيات لم تدرك خبرا يعلن عن وجود الزهرة في تاريخ الحركة النسوية المصرية، وربما تكون بعض هذه الجمعيات أدركت ذلك، ولكن النزوع الأيديولوجي منع تلك الجمعيات من الحماس لكاتبة معنية بغير ما يعني تلك الجمعيات، فالزهرة لم تكن مشتبكة سياسيا مع سلطة ما، سلبا أو إيجابا، فهي لم تخدم أي سلطة، كذلك لم نعثر علي خبر يقول بأنها احتجت علي سلطة، ولكن كل كتاباتها انحصرت في نقد الجوانب الاجتماعية والمجتمعية المشوهة، ومحاولة تقويمها، وبالتالي لديها برنامج فكري استطاعت أن تنجزه عبر مسيرتها المجهولة، وبالتالي فهي أزيحت بقوة شديدة، ونأمل في تدارك ذلك من قبل الجمعيات المهتمة بشأن تاريخ الحركة النسوية في مصر والعالم العربي.