منذ سنوات طويلة حضرت ندوة للدكتور علي جمعة، وكان وقتها مفتي الديار المصرية، وأذكر أنه أطلق تصريحا مثيرا للدهشة، حيث أكد أن ما أصدرته دار الإفتاء في ذلك العام من فتاوي، تجاوز عدد ما أصدرته خلال مائة عام! وعلي ما أتذكر كان الرقم المُرتبط بتلك السنة يدور في فلك المائة ألف، مقابل 96 ألفا شهدها قرن كامل. اختفت بعض التفاصيل من ذاكرتي بفعل عوامل الزمن التي تتآمر مع النسيان، وظل الرقم يتزايد سنويا حتي كسر هذا العام حاجز المليون فتوي! لم يكن الرقم المُجرّد هو ما يشغلني، بقدر ما تستوقفني دلالاته التي تطرح احتمالين متناقضين، فإما أن الوازع الديني يتنامي عند المصريين، أو أن جهلهم بأبسط تعاليمه هو ما يتزايد، لدرجة أنهم يسألون حتي عما يُفترض أنه بات معلوما من الدين بالضرورة، وعبر مرات بحثتُ فيها عن تصنيف دقيق للفتاوي التي يتم إطلاقها، لم أجد ما يروي عطشي للمعرفة، فالأرقام المُعلنة عادة ما تكون إجمالية دون تفاصيل يمكن الاعتماد عليها في أي تحليل. وجاء إحصاء هذا العام ليجدد دهشتي، فقد أصدرت دار الإفتاء أكثر من مليون فتوي، بينما بلغ عدد فتاوي مجمع البحوث الإسلامية 711 ألفا، والرقمان السابقان وردا في بيانات رسمية للجهتين، وتمت الإشارة إلي أنهما يخصان فتاوي لا مجرد تساؤلات، حيث أشار المجمع بوضوح إلي أنه قام بالرد علي 36 ألف سؤال إلكترونيا، بما يفيد أن من صاغ البيان يُدرك الفرق بين الفتوي والسؤال، وقد تزامن تنامي عدد الفتاوي مع افتتاح لجان الفتوي الجديدة في المراكز والمدن، الذي يمضي في إطار خطة المجمع لمواجهة فوضي فتاوي غير المؤهلين. أطلقت هيئتان فقط إذن أكثر من مليون ونصف المليون فتوي في عام واحد، وهو ما يطرح تساؤلات حول عدد الفتاوي التي انطلقت من شيوخ الفضائيات وأئمة المساجد، وغيرها من فتاوي »غير المؤهلين» التي تُمثل فوضي في حد ذاتها، وأعتقد أن العدد الإجمالي يفوق قدرة أي إنسان علي الحصر. دائما ما نتحدث عن الزيادة السكانية باعتبارها تفوق المعدلات المُفترضة، لكن إذا ما اعتمدنا الأسلوب نفسه في التعامل مع الفتاوي فسنكتشف أن تزايدها يتجاوز حدود المعقول، والغريب أن ذلك لا يقود إلي متغيرات إيجابية تُذكر في السلوك، فهناك شكوي شبه عامة من تراجع أخلاقي حاد نشهده في معاملاتنا اليومية، رغم انه يفترض أن يساهم الوازع الديني في الارتقاء بالسلوك، وهو ما يطرح باقة جديدة من علامات الاستفهام، علي رأسها: هل يعني ذلك أن مئات الآلاف من الفتاوي تأتي ردا علي تساؤلات شريحة بسيطة من المجتمع، هي التي تتمسك بالدين وتسعي للاقتداء بتعاليمه؟ أم أن غالبية الاستفسارات ترتبط بمصالح مباشرة كالميراث مثلا، دون أن تهتم بفقه المعاملات؟ وهل يمكن تفسير ذلك بأنه نوع من الاستسهال الذي سيطر علي المجتمع، فأصبح اللجوء إلي الشيوخ هو السبيل الأيسر للحصول علي أي معلومة حتي لو كانت بديهية؟ خلال أيام يجمع العام أوراقه ويمضي، وسرعان ما تغيب الأرقام في الذاكرة العميقة رغم خطورتها، ليشهد العام الجديد معدلات زيادة أكبر، وتتحول الفتاوي إلي أرقام يتم التعامل معها كإنجازات، رغم أن الإنجاز الحقيقي لن يتحقق إلا بالتحليل، وكم أتمني أن يبدأ علماء الاجتماع في تصنيف مضمون هذه الفتاوي وتحليلها. وقتها قد تكون النتائج مفاجئة، وربما نحصل علي ردود للتساؤلات التي تتسارع وتيرتها، ونكتشف الأسباب الحقيقية التي تجعلنا نقترب من رفع شعار: فتوي لكل مواطن!