لم يكن صوته يحمل نبرة التفاؤل المعتادة. كنتُ قد علمتُ أن حلمه في الوادي الجديد لم يكتمل، وهو الأمر الذي توقعتُه قبل أكثرمن عام، واتهمته وقتها بالجنون، لكني أعترف أنني كنتُ معجبا بمغامرته، وتمنيتُ أن يُخيّب القدر توقعاتي، وينجح الشاب في تحقيق معجزة تمنحنا بعض الأمل. عبر الهاتف أخبرني مصطفي كمال أنه اضطر لإغلاق فرع مكتبة »ومضة« في الخارجة، بعد أن ظل يكافح نحو سنة دون جدوي. كان يحرث في البحر وسط جمهور ضئيل وتجاهل رسمي، مما هدد وجود الفرع الأصلي بأسيوط، فاتخذ القرار الصعب، ولملم بضاعته الراكدة وعاد من حيث أتي، بعد أن اقتنع أن من خرج من داره قل مقداره! اعترف أنه كان يدرك أن التجربة ليست سهلة، لكنه راهن علي عطش الوادي، غير أن الظمأي حوّلوا ينبوعه إلي سراب! المشكلة من وجهة نظره ليست في إخفاق الخارجة، بل في تراجع حاد تشهده تجارة الكتب في أسيوط أيضا، لم يكن حزنه نابعا من خسارة تهدد رأس ماله، فقد أكد أنه يكسب، لكن ليس من عائد الكتب، ولا حتي الأنشطة الثقافية الموازية، بل من بيع الهدايا والتحف، الذي اضطر للتوسع فيه علي حساب الكتاب الذي قلّص أعداده بعد تراجع الطلب. وهو الأمرالذي يجعله يشعر بالأسي الشديد، فلو كان هدفه الوحيد هو تحقيق الكسب المادي لتخصص في تجارة التُحف منذ البداية. المشكلة تتجاوز حدود «ومضة» إلي مكتبات كبري تملك سلاسل لبيع الكتب تنتشر في عدة محافظات، ورغم أنها تعتمد علي اقتصاديات أضخم بكثير إلا أنها لم تستطع الصمود في وجه تدهور الحالة الثقافية، وبدأت في إغلاق عدة فروع تباعا، مما يشير إلي حالة تراجع لن نمل من التحذير منها، وهي حالة طرح المثقفون أكثر من تبرير لها، لكن في المقابل يمتلك عدد من البعيدين عن الساحة الثقافية وجهات نظر مغايرة للرؤي المعتادة، فعبر تعقيبات علي مقالات سابقة كانت تنعي القاريء، رأي البعض أن المثقفين تعاملوا مع القراء من أبراج عاجية، مما أدي إلي احتضارهم. وأضاف آخرون أن الغلاء الذي يفترس كل شيء جعل الكتاب يدفع الثمن الأكبر، خاصة مع تنامي شبكة الانترنت، التي تتيح الكتب وتقوم بتلخيصها فتُقدم المعلومة مختصرة! والكلمات الأخيرة تحديدا تعبر عن مفهوم خاطيء انتشر خلال السنوات الأخيرة، واختزل الثقافة في بضع معلومات عابرة، وهو أسلوب كرّسته مناهج تعليم عقيمة، جعلت العلاقة مع الكتاب مثل نزوة عابرة، تعتمد علي استقاء معلومات مؤقتة، يتم لفظها بعد الامتحان دون أن تساهم في تنمية أية مهارات ابتكارية، بل إنها تكون قد دمرت البنية الأساسية للمعرفة، وروجت فكرة أن الكتب مجرد وسيط للمعلومة، وطردت الإبداع والفكر اللذين يساهمان في بناء الشخصية بشكل غير مباشر. المشكلة أكبر من «ومضة» أومن سلاسل مكتبات تخبو أضواؤها تدريجيا في منطقتنا العربية. فبعد أن نفيق من غفلتنا ذات يوم، سنكتشف أن محاولات طرد الظلام المُحتمل تحتاج إلي جهود مُضنية، خاصة أنها ستنطلق من نقطة الصفر! وقتها فقط سنندم علي ما ارتكبناه في حق مستقبلنا.