عندما تضيق بها السبل، لا تجد معظم سلطات المنطقة ملجأ لها سوي الثقافة، بعد أن تُعلن السياسة عجزها عن العمل وحدها، في مواجهة ظواهر مرضية تدق ألف ناقوس خطر. يأتي هذا عادة بعد أن يتلقي المثقفون سهام اللوم علي عدم القيام بدورهم، وكأنهم المسئولون عن تهميشهم المستمر. وبمجرد أن تستقر الأوضاع نسبيا تعود محاولات حصار الكلمة إلي عادتها القديمة، إما بشكل مباشر، أو عبر أساليب تحاول التنكر في شكل ممارسات أخري! إنها طقوس متكررة لا تختلف إلا في أسلوب الأداء. علي مدار سنوات مضت لجأ تنظيم داعش إلي حرق الكتب، في المناطق المنكوبة بوجوده في العراق، وبعد التخلص من سطوته بدأت السلطة في حصار الكتاب، لكن بأسلوب أكثر تحضرا! فلجأت إلي سلاح الضرائب، التي رفعتها علي الكتب المستوردة، لتضيف عبئا جديدا يعوق تداول الكتاب إن لم يمنعه. الضرائب الجديدة أثارت غضب دور النشر العراقية، ولم يكتف أصحابها بالاحتجاج، بل اعتمدوا علي التفسير التآمري السابق، وأطلقوا » هاشتاج» : كلا لمحاربة الكتاب. وبإعمال العقل نجد أن لديهم منطقا لا يُستهان به، ففلسفة الضرائب تسعي في الأساس إلي تحقيق إيرادات للدولة، مما يعني أن السلع الرائجة ينبغي أن تكون المُستهدفة، لأن مبيعاتها الكثيفة هي التي تُحقق الدخل المرجوّ، لهذا يُعتبر فرض الضريبة علي الكتب أمرا مُستغربا، فالإحصاءات المحدودة تؤكد أننا أمة لا نقرأ، مما يعني أن الكتب أصبحت بضاعة شبه راكدة، فما هي الحصيلة المتوقعة من أي ضرائب أو جمارك تُفرض عليها؟ الحالة العراقية ليست وحيدة، فصناعة النشر في معظم بُلداننا تخضع للضرائب، التي يتم تقييمها عادة بشكل جزافي، لا يتماشي مع سوق لا يُمكن أن يصمد عند أي مقارنة مع سلعة أخري، حتي لوكانت» اللبان» أو »العلكة» باللهجة الشامية! ورغم ذلك تظل التصريحات الرسمية» تمضغ» كلمات لا تنتهي عن أهمية الثقافة في بناء مجتمعاتنا! وربما كان مسئول عراقي يكرر العبارات نفسها، بينما يتم احتجاز 13 حاوية كتب في ميناء قريب، لأنها لم تُسدد الضرائب المُستحقة عليها! في أجواء كهذه يصبح من المشروع البحث عن أسباب مغايرة لفرض الضرائب. هنا يمكن استحضار الرقابة لتكون مبررا مُحتملا بقوة، في مجتمعات قد تصمد أمام دويّ الأسلحة لكنها لا تتحمل هدير الكلام أو حتي حفيفه. وإذا كانت المصادرة المباشرة تثير جدلا عابرا للحدود فلا بد من ابتكار وسائل أخري، قد تثير الاعتراض، لكن التلاعب في تبريرها أسهل من مواجهة انتقادات دولية، تتهم السلطة بوأد حرية التعبير. بين نار الفكر وسندان الرقابة تجد الثقافة نفسها محاصرة في دول العالم الثالث، بينما نتداول منشورات تثير الحسد عن أوضاعها المزدهرة في الدول المتقدمة، ونحن لا نزال نناقش أسباب اختفاء القاريء في ظروف غامضة، ونتابع التنظير بعبارات متعالية لا يسمعها غيرنا. نهدر ساعات طويلة في أحاديث تُشبه حوارات» الطرشان » ، بينما لا يتحدث المواطن العربي عن غلاء الكتب، إلا إذا وجد نفسه مضطرا لتبرير أسباب عزوفه عن القراءة!