علي أي حال، حسمت عائشة الجدل الدائر بيننا، بعد أن تسلمت خطاب التعيين من القوي العاملة بتعيينها في سوهاج، وفوجئت بها وقد جاءت إلي »الخارجة» قبل غروب شمس أحد الأيام، وهو الميعاد اليومي الوحيد للأتوبيس القادم من القاهرة، دون سابق إنذار. كانت قد غيّرت التعيين من سوهاج إلي الوادي الجديد، وهو ما كان محل ترحيب من الوزارة بالطبع، ومن النادر أن يطلب أحد أمرا كهذا. كانت مشكلة .. أنا أسكن في استراحة المعلمين، وليس هناك استراحة للمعلمات، وانتهي الأمر بها إلي النزول في بيت مغتربات، وأنا لا أعرف حتي الآن كيف خاضت مثل تلك التجربة وتحملتها، أعني مشاركة أخريات في حجرة واحدة والسكني المشتركة وتفاصيلها وتبعاتها، خصوصا وأنها لم تكن قد تركت بيت أسرتها حتي الآن ولو ليوم واحد، لكنها صممت علي خوض تجربة كهذه رغم معارضتي القوية لمجرد مجيئها إلي الوادي الجديد. بعد أقل من ثلاثة أسابيع أدركنا استحالة أن نستمر علي هذا النحو، فقد كنا نلتقي بعد انتهاء مواعيد العمل (كانت هي قد تسلمت العمل أمينة مكتبة بإحدي المدارس الإعدادية)، ونذهب لتناول الغداء في المكان الوحيد الصالح للأكل وهو نادي تعمير الصحاري، وفي ظل تلك الحرارة القاسية اللاسعة، لم يكن هناك مايمكن عمله . وهكذا فكّرنا في البحث عن مكان يؤوينا، رغم عدم استعدادنا المادي لتكاليف كهذه. في ذلك الوقت كانت البيوت إما بنتها الحكومة لتسكين الموظفين، وتنتهي إقامتهم فيها بمجرد نقلهم أو إحالتهم للمعاش، وكانت تلك المساكن أقل كثيرا جدا من عدد من يستحقونها، أو بيوتا معتبرة جيدة البناء يسكنها ناس مستقرون، سواء كانوا من أهل الواحات، أو من الوافدين والمستقرين. بحثنا واستخدمنا معارفنا لنعثر علي شقة لكننا فشلنا، ولم يكن هناك مفر أمامنا، بعد أن انصرم مايقرب من شهرين من التشرد واللقاء اليومي في نادي تعمير الصحاري، لم يكن أمامنا إلا البحث في البيوت القديمة التي يسكنها الواحاتية الأصلاء، والحقيقة أن صاحب هذا القرار هو عائشة، ولست أنا!! بيوت الواحاتية القديمة ابنة تراث عريق يتعامل جيدا مع الحرارة وظروف المناخ القاسية، أما البيت الذي عثرنا عليه، فهو خليط من هذا وذاك، صاحبه من أهل الواحات ويعمل سائقا في إحدي الإدارات الحكومية، وبني بيديه وعلي عجَلَ »كل شن كان» وبأكثر الأساليب بدائية، في المساحة الباقية من مسكنه الذي يعيش فيه حجرتين، ثم مسقط مسقوف نصفه فقط وحمام، بلا كهرباء (وكان وجود الكهرباء مثل عدمه، والتيار كان ضعيفا جدا ولايستمر إلا نحو ساعتين متفرقتين) أما الماء فكان يصلنا عبر خرطوم مدّه من مسكنه الملاصق لنا، وعندما نحتاج الماء كنت أنادي : ياصلاح..! وصلاح ليس كودا سريا بل اسم ابنه! بقي أمامنا أن نؤثث الشقة. استغنينا عن إحدي الحجرتين، وذهبنا إلي أحد المحلات في السوق واشترينا سريرا معدنيا ومرتبة ووسادة ووابور جاز ولمبة جاز وحلتين وأربعة أطباق معدنية وبرادا وأكوابا زجاجية.. إلخ .. إلخ.. اشترينا إذن كل تلك التفاصيل الصغيرة التي تلزمنا لنبدأ حياتنا الجديدة، وأنفقنا بالطبع كل ماكان معنا، والباقي وافق من اشترينا منه علي تقسيط الباقي. المدهش بالفعل أن أيا منا، عائشة وأنا لم نشعر بأننا نفعل شيئا غريبا أو نضحي مثلا أو أيا من تلك المشاعر الحارة، كنا نقوم بعمل أشياء عادية جدا: سكنّا في البيت المتاح، واشترينا مايلزمنا، بل إن صاحب الدكان أهدانا جوالا أو اثنين فرشناه تحت النصف المسقوف من الصالة، واشترينا طبلية لنتناول طعامنا عليها. أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل..