شهدت السنوات الأخيرة تحولات عدة لافتة في العلاقات الدولية، منها علي سبيل المثال أن حلف الأطلسي لم يعد متماسكاً بالدرجة ذاتها التي كان عليها خلال سنوات الحرب الباردة، بل طيلة سنوات عدة أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء حقبة تلك الحرب باختفاء العدو التقليدي للحلف، والخلافات بين شركاء الأطلسي لا تقتصر علي الخلافات المتنامية حول ميزانيات الدفاع بين الولاياتالمتحدة والأعضاء الأوروبيين، بل وصلت إلي حد استيراد القوة العسكرية الثالثة في الحلف، تركيا، أسلحة استراتيجية من روسيا، وانسلاخها عملياً من الالتزامات المتعارف عليها لأعضاء الحلف. لم يكن هذا هو المظهر الوحيد للتحولات التي أقصدها بل هناك أيضاً انسحاب الولاياتالمتحدة من العديد من الاتفاقات الدولية مثل اتفاق باريس للمناخ واتفاقيات الشراكة التجارية التي تمثل أحد مظاهر النظام العالمي في تجلياته الاقتصادية. هناك أيضاً عودة روسيا إلي ساحة العمل والفعل الدولي عبر البوابة السورية، وامتلاكها زمام المبادرة مجدداً في منطقة نفوذ تاريخية للاتحاد السوفيتي السابق. أحدث التغيرات في العلاقات الدولية تمثل مؤخراً في توقيع الهندوروسيا علي عقد لتوريد 5 منظومات للدفاع الجوي من طراز »إس 400»، وهي المنظومة التي ذاع صيتها مؤخراً في العالم، حيث قامت تركيا إحدي دول حلف الأطلسي بالتعاقد علي شرائها وكذلك إيران، كما تعاقدت علي شرائها دول أخري عدة ويسعي آخرون إلي التعاقد علي شرائها، في انعكاس واضح للتطور الحاصل في تكنولوجيا السلاح الروسية، واستعادتها جزءاً كبيراً من الثقة الدولية التي كانت تحظي بها الأسلحة السوفيتية سابقاً في سوق السلاح العالمي. بالإضافة إلي صفقة الصواريخ الروسية المتقدمة، التي تتجاوز قيمتها خمسة مليارات دولار، تم التوقيع علي نحو عشرين وثيقة تعاون بين نيودلهي وموسكو، ما يعني أن الهند التي تعد إحدي القوي الدولية الصاعدة التي تصنف شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، لم تعد تتقيد بإطار تلك الشراكة، وباتت تسعي إلي تحقيق أهدافها ومصالحها عبر تنويع التحالفات بالعودة إلي الشريك الاستراتيجي الروسي القديم، حيث كان التحالف قوياً للغاية بين الهند والاتحاد السوفيتي في مواجهة تحالف باكستاني أمريكي. واشنطن نفسها أعربت عن »خيبة أملها» إزاء قرار الهند بشراء الصواريخ الروسية، حيث تدرك الولاياتالمتحدة أن هذه الصفقة تعزز مكانة الأسلحة الروسية عالمياً، وترجح كفة روسيا في سوق السلاح العالمي، ومع ذلك من الصعب توقع قيام واشنطن بتنفيذ تهديداتها الخاصة بتوقيع عقوبات علي تصدير الأسلحة للهند في حال توقيع هذه الصفقة تنفيذاً للقانون الصادر عن الكونجرس في عام 2017، والذي يعاقب روسيا علي موقفها في أوكرانيا وتدخلها المفترض في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويفرض هذا القانون عقوبات اقتصادية علي أي كيان أو بلد يبرم عقود تسلح مع مؤسسات روسية. وقعت الهند الصفقة رغم عدم حصولها حتي الآن علي استثناء أمريكي من هذا القانون، ولم تحصل سوي علي المزيد من التحذيرات، ولكن يبدو أن الهند التي تتطلع للعب دور عالمي أكبر، تدرك ضرورة الخروج من عباءة القوة الإقليمية وتوظيف مكانتها وقوتها الاقتصادية المتنامية في تعديل مواقف واتجاهات الولاياتالمتحدة حيالها، لاسيما أن الأخيرة تحتاج بشكل قوي إلي تعزيز علاقاتها مع الهند من أجل مجابهة الصعود الصيني القوي في آسيا، علاوة علي أن الولاياتالمتحدة لن تغامر بخسارة موقعها في سوق السلاح الهندية، حيث تعد الولاياتالمتحدة حالياً ثاني أكبر مزود للأسلحة للجيش الهندي بعد روسيا. من الناحية الإحصائية، فإن صفقة »إس 400» تعد امتداداً لوضع روسيا في سوق التسلح الهندي، الذي تحتل فيه روسيا المرتبة الأولي كما أشرت سالفاً، ولكن التنافس لم يكن علي صفقة صواريخ فقط، بل يشمل موازنات وخططا هندية تبلغ قيمتها نحو 100 مليار دولار لتحديث الجيش الهندي في مواجهة التنافس الباكستانيوالصيني. هناك قلق أمريكي تقني من توسع مبيعات صواريخ »إس 400» تحديداً لأنها المنافس الوحيد لمنظومة »باتريوت» الأمريكية، التي لم تعد تلقي إقبالاً كبيراً في السنوات الأخيرة، بل باتت علامات الاستفهام تدور حول فاعليتها العملياتية في التصدي للتهديدات الصاروخية. بعيداً عن صفقة التسلح، فإن الولاياتالمتحدة تنظر بقلق بالغ للتمدد الروسي في آسيا، إذ يلاحظ أن روسيا تتمدد بشكل مدروس من سوريا إلي إيران إلي الهند وأيضاً باكستان، الحليف السابق للولايات المتحدة، فضلاً عن علاقات روسيا الاستراتيجية مع الصين وكوريا الشمالية، وهو مسار يثير قلقاً أمريكياً كونه يتزامن مع رغبة أمريكية للتوجه نحو آسيا لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي إقليمياً وعالمياً. والمؤكد أن الاختبار الأهم للتوجه الاستراتيجي الهندي سيتمثل في مدي الالتزام بتنفيذ العقوبات الأمريكية المفروضة علي إيران في نوفمبر المقبل، بمعني تلتزم الهند بعدم استيراد النفط الإيراني، أم ستمضي في تنفيذ تعاقداتها وتتجاهل العقوبات الأمريكية في هذا المجال؟! الأرجح أن الهند لن تخسر علاقاتها مع إيران من دون مقابل من الجانب الأمريكي، فالهند لم تعد تنظر لنفسها كقوة صغيرة تلتزم بما تقرره واشنطن بل باتت تري أن لها دوراً مهماً في إدارة النظام العالمي ومن ثم من الصعب التنبؤ بانصياعها للعقوبات النفطية ضد إيران، ما لم تقدم لها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المقابل الاستراتيجي الذي ترضي به نيودلهي بديلاً لموقفها ضد إيران. الكاتب من الامارات الشقيقة