أمام تمثال مارييت بحديقة المتحف المصري بالتحرير، ألقي الكاتب محمد سلماوي مُحاضرة بعنوان »مصر القديمة في أدب نجيب محفوظ« وذلك بمناسبة الذكري ال12 لوفاة نجيب محفوظ. استهل سلماوي حديثهُ قائلًا: إن هذا اليوم هو يوم الكاتب المصري الذي تصادف مع يوم رحيل أحد عظماء الأدب العربي نجيب محفوظ. وقال سلماوي بأن نجيب محفوظ قد نشأ من قلب الحضارة المصرية القديمة وأن أدبه هو امتداد للأدب المصري القديم، والحضارة المصرية القديمة لم تقتصر علي المعمار فقط بل تميزت بالكثير من الفنون الأخري كالرسم والفلسفة والفكر والدين، معتبرًا أن الأدب لم يلق الاهتمام الذي نالتهُ الأهرامات والمعابد الفرعونية القديمة. وأشار سلماوي إلي أن الأدب المصري انتشر قبل الأدب اليوناني بقرون، الذي تلاه الأدب الروماني، وأن الأعمال الطويلة والقصيرة مثل «الفلاح الفصيح» هي خير دليل علي أن الأدب المصري كان موجودًا بالفعل قبل الأدب اليوناني. مؤكدا أن الحضارة المصرية القديمة لم تكن وليدة الصدفة، بل هي حضارة مترابطة، فعلي مدار التاريخ كان هناك ترابط متواصل بين الحضارة المصرية القديمة وبين الحاضر. وأضاف سلماوي أن الجميع ظن أن فن النحت المصري القديم قد اندثر، إلي أن جاء الفنان المصري المعاصر محمود مختار، الذي لم تكن أعمالهُ تقليدًا لفن النحت الأوروبي ولكنها جاءت من خلال الفن المصري القديم والحضارة الفرعونية. واستدل علي ذلك بتمثال نهضة مصر الذي يذكّرنا بالفن المصري القديم، فعندما يريد الفنان أن ينجح يجب أن يرجع للحضارة القديمة وتكون هي المُلهمة لهُ، مشيرًا إلي أن قصة محمود مختار هي نفس قصة نجيب محفوظ الذي لم يكن أول أعمالهِ كتابًا أدبيًا علي الإطلاق، بل كان كتابًا مُترجمًا عن الإنجليزية حول مصر القديمة، فمصر القديمة كانت هي الملهمة الحقيقية لنجيب محفوظ، واكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 أعطاه دافعًا لدراسة الحضارة الفرعونية القديمة، حيث كان يقضي ساعات طويلة بدار الكتب للبحث في التاريخ والقراءة عنهُ. قال سلماوي إن نجيب محفوظ قد أطلعه علي ورقة تحتوي علي أربعين فكرة لروايات أدبية مستمدة من التاريخ المصري القديم، حيث أراد محفوظ أن يكتب ذلك التاريخ من خلال رواياته. واستطرد قائلًا: تأثير المصري القديم علي محفوظ لم يتركهُ قط، والدليل أنني حين تسلمت جائزة نوبل نيابةً عنه، ألقيت خطابًا مكتوبًا قال محفوظ من خلاله «أنا ابن حضارتين: الحضارة المصرية القديمة، والحضارة العربية الإسلامية». ووصف سلماوي حياة نجيب محفوظ الأدبية بأنها قد مرت بعدة مراحل، بدايةً بمرحلة الحضارة المصرية القديمة، ثم المرحلة الواقعية، ثم الفلسفية التي بدأها في الستينيات فكتب اللص والكلاب، ثم أخيرًا كانت مرحلة الشفافية التي كتب خلالها «أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة». وأضاف سلماوي: حين انصرف عن الكتابة في الحضارة القديمة لم يستطع أن يتجرد من هذه الحضارة فعاد وكتب في الثمانينات رواية «العائش في الحقيقة» التي كانت عن إخناتون، وأراد من خلالها كشف الحقائق من خلال هذا الملك الذي جاء بالتغيير ولكن المؤسسة الدينية حينها ثارت عليهِ وأتوا بتوت عنخ آمون في نهاية الأمر، ونفس الأمر حينها كان ينطبق علي أنور السادات الذي جاء بالتغيير وبسياسة جديدة أغضبت الكثيرين. ذلك يؤكد أن نجيب كان يربط الماضي بالحاضر من خلال التاريخ، لكن بواقعية، فعندما كتب «كفاح طيبة» كانت عيناه علي الحاضر، من خلال التاريخ، حيث صوّر الهكسوس بأنهم المحتل الذي احتل مصر، وعلي الجانب الآخر كانت عيناهُ متجهة نحو الإنجليز، التي كانت مصر تحت احتلالهم أيضًا حينها، والشعب المصري كان يكافحهم بشدة. عودة محفوظ إلي التاريخ بهذا الشكل أعطي للمصريين بعدًا تاريخيًا لمقاومة الإنجليز. كما تطرق إلي الجانب الشخصي في حياة نجيب محفوظ، مؤكدًا أنهُ كان يتمتع بجميع الخصال المصرية في شخصيتهِ، حيثُ كان دمث الخلق، ويكن احترامًا للكبير والصغير، فضلًا عن امتلاكهِ روح الدعابة في حديثهِ، وكان يمتلك عزة النفس والتواضع أيضًا، ويعتز اعتزازًا كبيرًا برأيهِ، فعندما اختار نجيب محفوظ سلماوي لينوب عنهُ في تسلم الجائزة، نُشر حينها في الجرائد أن مؤسسة الرئاسة ستتدخل وسترسل شخصًا بديلًا لسلماوي باعتبارها جائزة لا تخص محفوظ فقط بل هي جائزة تمثل الشعب المصري بأجمعهِ، وعندما أراد سلماوي رفع الحرج عن نجيب محفوظ واعتذر عن الذهاب لتسلُّم الجائزة قال له محفوظ «أنت بتتخلي عني يا أستاذ محمد؟» فأخبره سلماوي حينها بما قرأه حول أن الرئاسة ستتدخل في الأمر، حينها رد عليهِ محفوظ قائلا «ده رئيس جمهورية، عايز يختار يختار، بس أنا اخترت!». وبسؤال أحد الحضور لسلماوي حول ما تركته رواية أولاد حارتنا عند نجيب محفوظ من أثر نفسي باعتبارها أصعب مرحلة مرت عليه في حياتهِ، أجاب: عندما جاء إلي محفوظ أحد المتشددين وضربهُ في عنقه، كان يظنه أحد المعجبين به، بل كاد أن يفتح لهُ باب سيارتهِ ليستقبله، لكنهُ فوجئ بما حدث بعد ذلك. حين ذهبت للمستشفي وقابلت نجيب محفوظ كان في حالة حزن شديد وصدمة، فلم يكن يتخيّل أن يتعرض لحادث اغتيال، خاصةً وأنه كان مُحبًا للناس بصفة عامة ولا يحمل كرها لأي شخص، وقال لي حينها مستنكرًا إن هذا الشاب كان من الممكن أن يصبح بطلًا رياضيًا أو متفوقًا في شتي أنواع المجالات، فما السبب الذي جعلهُ شخصًا قاتلًا. استكمل سلماوي حديثهُ، بأن محفوظ كان حزينًا علي ما وصل إليه هذا الشاب واعتبره ضحية لمجموعة من الشخصيات التي وجهتهُ، مشددًا علي أن العدالة يجب أن تأخذ مجراها، لكنهُ علي الجانب الشخصي قد سامح هذا الشاب. وردًا علي أخبار الأدب حول ما أثاره تصريح د.سيزا قاسم من جدل عندما وصفت نجيب محفوظ بأنه كان «جبانًا» لأنه لم يجرؤ علي الاعتراف بأن رواية أولاد حارتنا ذات رمزية دينية؛ أجاب سلماوي قائلا إن من يصف نجيب محفوظ بأنهُ كان «جبانًا» هو شخص لا يعرفه، مهما كتب عنهُ من دراسات. ودافع سلماوي عن محفوظ مستشهدًا برواية «ثرثرة فوق النيل» التي انتقد فيها نجيب الأوضاع السياسية السائدة، خاصةً الحزب الاشتراكي وأصحاب السلطة حينها، وأضاف بأنه بسبب هذهِ الرواية أصدر المشير عبد الحكيم عامر أمرًا مباشرًا بالقبض عليهِ، لكن عبد الناصر أمرهُ بالتراجع. مضيفًا أن نجيب محفوظ بعد علمه بتلك الواقعة أصدر رواية «ميرامار» التي تعتبر اسوأ من الرواية الأولي من ناحية النقد في سياسات الدولة. وتساءل سلماوي: كيف لأحد أن يصف نجيب محفوظ بأنهُ كان جبانًا بعد هذه المواقف؟ ثم استطرد: مفهوم الشجاعة لا يعني أن نثور في الشوارع، بل بكلمة من الممكن أن نهّز نظام بأكملهِ وهذا ما كان يفعلهُ محفوظ، وبالتالي لا تعني الشجاعة أن محفوظ كان يجب أن يعترف بأنها ذات رمزية دينية، لأن الكاتب له سلاحهُ وهو الكتابة، ومن الناحية الأدبية لا يجب علي الأديب أن يقيّم عملهُ الأدبي ولا يبرره، فإن فعل ذلك؛ ما هي وظيفة النقاد والدارسين حينها؟ وفي ختام المحاضرة قامت الأثرية صباح عبد الرازق، مدير عام المتحف المصري، بتكريم الكاتب محمد سلماوي وإهدائهِ مستنسخ أثري يمثل الكاتب المصري القديم.