السينما في تعريف بسيط هي لعبة قائمة علي الخداع البصري، بدأت مع (صندوق الدنيا) الذي عرفه العالم بأسماء متعددة قبل نهاية القرن التاسع عشر بعشر سنوات من خلال المخترع الأمريكي توماس أديسون وأطلق عليه اسم (كونتوسكوب)، وانطلق من بعدها ليشمل العالم كله، بعد أن باتت أقرب إلي لعبة يفضلها الصغار ولا يجد الكبار بأسا من التعامل معها . عادل إمام أصبح التليفزيون موطنه الأصلي وبالطبع صار لكل بلد صُندوقها الخاص الذي يعبر عن ثقافتها، هذا المشهد الذي سأحدثكم عنه يتذكره عدد قليل جدا من القراء، هؤلاء الذين كانوا أطفالا في الخمسينيات قبل دخول التليفزيون إلي مصر عام 1960 حيث بدأ البث التليفزيوني في 21 يوليو تحديدا، إلا أن صندوق الدنيا ظل يجوب طوال تلك السنوات برغم انتشار دور العرض إلا أن هذا الصندوق لم يختف واستمر المشهد حتي السبعينيات في الريف وربما قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات كان قد اختفي من القاهرة . المشهد رجل يحمل علي ظهرة صندوقا وعددا من الدكك الخشبية وهو يردد (اتفرج ياسلام)، ويشاهد الأطفال ببضع ملاليم قصصا عن عنترة بن شداد والزير سالم والزناتي خليفة وغيرهم هو يحكي وهم يشاهدون حيث يعتمد علي تحريك عدد من الصور الثابتة بينما العين تصل إليها متحركة طبعا كان التحريك بأصابع اليد عشوائيا إلا أنه وبنسبة كبيرة كان يحقق الهدف، وتم تقنين السرعة علميا بعد ذلك في ماكينة عرض الشريط السينمائي ب 16(كادر) في الثانية الواحدة وذلك قبل دخول شريط الصوت، لتصبح (24) كادراً في الثانية مع دخول الصوت حتي يحدث ما يعرف بالتزامن بين حركة الصورة وإدراك الصوت. المؤكد تاريخيا أن مصر واحدة من عدد لا يتجاوز العشرة عرفت مبكرا جدا تلك الصناعة بل وساهمت أيضا في تقديم أفلام تحاكي ما كانت تتلقاه من أفلام أجنبية. السينما تستطيع تبسيطها في كاميرا تلتقط صورا وبعد ذلك يتم بث هذه الصور، وهكذا بدأت تسجيلية واقعية في فرنسا مثل تصوير خروج العمال من المصنع أو خروج القطار من المحطة وهذا الفيلم الأخير تحديدا هو ما أثار الرعب في المتفرجين، وهم يشاهدون القطار وكأنه يتوجه إليهم، وهكذا رأينا الساحر الفرنسي جورج ميليس بعد بضع سنوات من اختراع السينما وهو يضع لمسته السحرية الخاصة التي تختلف تماما عما قدمه الأخوان (لوميير) وهكذا عرض مثلا (رحلة إلي القمر) في مطلع القرن العشرين سابقا رحلة (جاجارين) أول من ذهب للفضاء بأكثر من ستة عقود من الزمان، وفي هذا الاتجاه ومع تقدم العلم وصلنا الآن لسينما الأبعاد الثلاثة ثم انتقلنا لسينما الواقع الافتراضي حيث يعيش المتلقي الحالة السينمائية بكل تفاصيلها وكأنه مشاركا وليس مجرد متلق، ولن يتوقف الحلم السينمائي، وبالتأكيد ألمح الآن سؤال، أين السينما المصرية من كل ما يجري حولنا في العالم؟. لو رجعت إلي أرشيف السينما ستكتشف أننا ومع بدايات تواجد تلك الصناعة في الثلاثينيات من القرن الماضي وهناك دائما حديث عن الأزمة، تخرج السينما المصرية من أزمة لتجد نفسها متورطة في أخري، ورغم ذلك فإنها لا تزال تتنفس. يقولون الألم هواية والأمل موهبة، وأنا أحاول في هذه الدراسة أن أمسك بخيوط الأمل، علي عكس تلك النظرة المتشائمة التي يتبناها كُثر عندما يطلون علي المشهد الثقافي برمته والسينمائي تحديدا، لدي إطلالة أخري، لا أحاكي نظرية نصف الكوب الملآن الذي يقابله بالضرورة نصف فارغ، المتشائم هو الذي يكتفي بالنصف الفارغ فلا يري غيره، نعم ليس لدينا نصف ملآن، والأمر لم يزد عن رشفات نتجرعها ونحن نتابع الفيلم المصري في عدد من المهرجانات العالمية بتواجده خارج الحدود، خاصة وأن لدينا جيلا جديدا من المخرجين استطاعوا أن يحققوا نجاحات في المهرجانات العالمية خلال السنوات الأخيرة، لم نصل قطعا إلي تخوم الطموح، ولكن بصيص من أمل قادم أفضل قطعا من ضياع الأمل. لا نستطيع أن نرصد الاقتصاد بمعزل عن التاريخ السينمائي ولا عن الفكر الذي يصطدم بمحددات رقابية وسياسية تضعها السلطة بل وتُسرف فيها أغلب دولنا العربي وبينها قطعا مصر، وأيضا الواقع الاجتماعي الذي يفرض هو أيضا حواجز تقف كعراقيل أمام حرية السينمائي العربي عموما والمصري تحديدا، وبالطبع تختلف الدرجة في إحكام القيود بين دولة عربية وأخري، كما أن المجتمع في أحيان كثيرة لديه أيضا قواعده الصارمة، حتي بعد أن توافق الدولة، فهو في أحيان كثيرة يطالب بمزيد من القيود وأحيانا يتهم الدولة بالتقصير، في أداء دورها الرقابي، وبالطبع النظرة الأخلاقية بمعناها المباشر هي التي تحدد تلك الرؤية. إلا أنه في كل الأحوال تظل تلك العناصر تملك التأثير بقوة علي اقتصاديات السينما، لا نستطيع أن نغفل أن النظرة الدينية عند بعض المتشددين التي تُحرم الفن بل والسينما تحديدا، وبالتالي فإن النجاح في مواجهة هذا التعنت الذي يتدثر عنوة بالدين، يؤثر بإيجابية اقتصاديا علي السينما، والاستسلام لها بالتأكيد يخصم الكثير من حضورنا سينمائيا،العديد من الدول العربية تواجه هذا التيار المتشدد في تعاطيه مع كل الفنون، وبعضها يميل إلي محاولة الوصول إلي منطقة آمنة مع هذا التيار، بينما التجربة أثبتت أنه لا يمكن الوقوف مع هذا التيار في منطقة متوسطة، فهم بطبيعة تكوينهم ضد الجمال الفني ولهذا فلا محيص عن المواجهة. السينما دائما مستهدفة، هي بمثابة لوحة (التنشين) التي تتلقي العديد من طلقات الرصاص، مصر والتي يتجاوز عمر السينما فيها مائة عام تعاني من تلك النظرة المتحفظة في تقبلها للأعمال الفنية، والمتحفزة أيضا في علاقتها بالفن الذي تراه مذنبا عليه أن يُثبت أولا براءته، وكثيرا ما يجد السينمائي نفسه مطلوبا أمام النيابة للتحقيق معه بتهمة ازدراء الأديان وآخر الأفلام التي نالها هذا الاتهام (الشيخ جاكسون) ولا أتصور أن فيلم (يوم الدين) لأبوبكر شوقي والذي شهد عودة مصر إلي المسابقة الرسمية لمهرجان (كان) السينمائي الأخير سوف ينجو من اتهام ما من بعض المتزمتين دينيا. وهكذا فإن السينما تواجه العديد من المعوقات الاجتماعية والثقافية وتبقي قبل وبعد كل ذلك المشكلة الاقتصادية. والسينما ببساطة هي معادلة اقتصادية لا تتحقق إلا من خلال ضبط تلك المعادلة، يجب أن نصاب بدهشة عندما نذكر أن مصر في مجال السينما لا يتجاوز رأس المال الذي تتم من خلاله إنتاج الأفلام 30 مليون دولار فقط لا غير، نحو أقل من 600 مليون جنيه والمتوسط الحالي لعدد الأفلام المنتجة وأعني بتعبير حالي (الألفية الثالثة ) نحو 40 فيلما فقط، العام الماضي ارتفع الرقم إلي 45 فيلما، كان المتوسط حتي الثمانينيات يتجاوز 60 فيلما سنويا، لو قفزت فوق النظرة العامة لتقييم أصول السينما المصرية، فنكتشف أن الأمر برمته لا يتجاوز 200 مليون دولار والشاشات لا تزد عن 400، لا تنسي أن عدد السكان 100 مليون المفروض أن تصل إلي 4000 دار عرض بينما علي أرض الواقع نتابع ما يجري من هدم لدور العرض. الدولة من خلال وزارة الثقافة لا تزال مترددة في السماح بعرض الأفلام الأجنبية بعدد يتجاوز 9 نسخ للفيلم الأجنبي، فلا يعرض الفيلم إلا بهذا العدد المحدود من دور العرض، قبل عشر سنوات فقط كان الحد الأقصي 5 نسخ فقط لا غير، وذلك بحجة حماية المنتج السينمائي المحلي (المصري) من منافسة الفيلم الأجنبي، ومقصود به في مصر الفيلم (الأمريكي) فقط، حيث إن الموزعين في العادة لا يتعاملون سوي مع الشركات الأمريكية، ويطالب أصحاب دور العرض الدولة بالسماح بعدد أكبر من النسخ، لأن الفيلم المصري أو الأغلبية تحديدا،لا تستطيع الصمود طويلا في دور العرض، وبالتالي لا تجد الشاشات ما تقدمه من أفلام أجنبية لضآلة عدد النسخ، فتخسر، ويصبح مشروع إنشاء دار عرض متعددة الشاشات محفوفا بالكثير من المخاطر، وهذا يفسر، لماذا تراجع في السنوات الأخيرة بمصر مؤشر توجه أصحاب رؤوس الأموال لبناء دور عرض جديدة، بل تابعنا مؤخرا كيف سيتم هدم دار عرض سينمائية تحمل اسم فاتن حمامة حيث إن الأرض التي تقع عليها السينما حاليا ارتفع ثمنها لعشرات الملايين من الجنيهات بينما السينما لا تدر أرباحا فكان الحل هو هدم السينما وبيع الأرض، طبعا علينا أن ندرس بهدوء كيف نفتح الباب لعدد كبير من نسخ الفيلم الأجنبي وفي نفس الوقت لا يضر ذلك بالمنتج السينمائي المصري، الأمر يحتاج إلي دراسة متأنية ليس الآن قطعا مجالها تحتاج إلي قدر من الشفافية بين كل الأطراف. الاستوديوهات في مصر تحديدا صارت تولي اهتماما أكثر بالمسلسلات الدرامية، حجم الأشغال بتصوير المسلسلات هو السائد حاليا بنسبة تتجاوز70٪ ، حيث إن مجال الاستثمار الدرامي حاليا عشرة أضعاف الاستثمار السينمائي ليصل إلي 300 مليون دولار، هامش المخاطرة في الدراما التليفزيونية أقل، لأن الفضائيات تتعاقد علي شرائها قبل الشروع في إنتاجها وذلك تبعا لجاذبية اسم النجم، كما أن أغلب المسلسلات التي تصنف باعتبارها مصرية الإنتاج تشارك فيها قناوات فضائية وشركات خليجية، النجوم أيضا بات توجههم للدراما التليفزيونية يأتي سابقا علي السينما، ولدينا مثال واضح وهو عادل إمام، النجم الأول في عالمنا العربي، والذي يحصل علي الأجر الأعلي عربيا، يغيب عادل إمام للعام التاسع علي التوالي عن مجال السينما ليستقر علي الشاشة الصغيرة حيث صار التليفزيون هو موطنه الأصلي، ولو حسبتها ماديا، فإن أجر عادل الآن في السينما لا يصل حاليا إلي رقم مليون دولار، بينما في التليفزيون يتجاوز رقم 2 مليون دولار بل يقترب من 3 ملايين دولار، وهو لهذا يفضل أن يمنح طاقته كلها إلي التليفزيون، عادل بحكم العمر الزمني حيث يقف حاليا علي شاطئ الثمانين، لم يعد يستطيع كما كان يحدث في الماضي تقديم أكثر من عمل فني في العام الواحد وهكذا اختار الشاشة الصغيرة . »الجزء الثاني العدد القادم»