خاطبت وزير الثقافة الأسبق «فاروق حسنى» منذ أكثر من عام قبل ثورة «25» يناير وعلى صفحات مجلة «روزاليوسف» أطالبه مخلصاً أن يصدر قراراً وزارياً بتحطيم تمثال «نجيب محفوظ» المقام فى ميدان «سفنكس» ليس استجابة لممارسة متطرفى «طالبان» أو لفتوى بعض الشيوخ السابقة بتحريم ظاهرة التجسيم لأشخاص أو اقتناعاً بخزعبلات المتشددين.. وتماشياً مع تخلف الدعوة إلى تكفير الرجل.. ولكنه استنكار لسوء التجسيد الفنى، وافتقاره إلى أبجديات العمل النحتى وأصوله ونسبه. فالتمثال يبرز «نجيب محفوظ» كضرير يرتدى نظارة تخفى عينيه التى كانت تعبر بجلاء ونفاذ عن عمق فكره وعظمة رؤيته للواقع المصرى.. والتمثال أيضاً يبرزه ممسكاً بعصا وكأنه يتحسس بها طريقه... ويخلو من الجمال الفنى فى القدرة على التعبير عن شخصية الكاتب الكبير.. ويعكس ضعف موهبة المثال وفقر إحساسه الفنى، وجهله الفادح بقيمة وقدر ومكانة الكاتب الكبير الذى بدأ وكأنه كاريكاتير سيئ لرسام مبتدئ، فأصبح وكأنه شاهد على الإساءة ليس فقط للعظيم «نجيب محفوظ».. ولكن لفن النحت ذاته... مثله فى ذلك مثل تماثيل «طه حسين» برأسه الصغير كالبيضة وردائه الغريب وقدميه الحافيتين، وتمثال «أحمد شوقى» الذى يجلس منحنياً فى وضع غريب وكأنه يقضى حاجته. ويبدو أن هذه التماثيل قد قام بنحتها مثال واحد فهى تتشابه فى فقر ثقافة النحات وسطحية تناوله.. وهو ما يدعو إلى التساؤل هل عقمت «مصر» من مثاليها الكبار حتى يعبث الصغار برموز ثقافتنا المعاصرة ؟! لم يستجب وزير الثقافة الأسبق مصراً على مقولته التى كان يرددها دائماً وهى: من أين آتى ب «مختار» جديد؟! أنا لا أعتقد أن ذلك مبرراً لهذا القبح والتشويه الذى نراه ويصدمنا ويدعونا إلى الشعور بالحسرة لتلك الردة لفن النحت العظيم الذى يميز حضارتنا العريقة. لذلك فإنى أكرر الدعوة إلى الوزير الجديد لإصلاح ذلك الأمر المشين.. وهو أمر ليس بالهين أو الثانوى. - وسط تجاهل نقدى واسع ومخز وصمت مريب - استلفت نظرى ما كتبته «روزاليوسف» تجاه الواجب الحتمى للاحتفال بمئوية «نجيب محفوظ» - هذا التجاهل الذى ضم النقاد المتخصصين والإعلاميين والنخبة المثقفة، ودفعه إلى المطالبة بإسهاماتهم لتفعيل وإثراء تلك الاحتفالية.. وسط هذا التجاهل يبرز كتاب بديع - عانى هو الآخر من صمت وتجاهل النقاد - هو شخصيات لها العجب للأستاذ الكبير «صلاح عيسى».. وفيه يرسم بورتريهات فنية لشخصيات عامة من النخب السياسية والثقافية التى اقترب منها بنحو أو بآخر فى فصول تجمع بين الذكريات والتراجم والدراسات والوثائق.. يحاول أن يقرأها من الداخل.. ويبرز ما فيها من أضواء وظلال وشجاعة وحماقة وتراجع وعطاء وأنانية... ويخصص فصولاً لسبع شخصيات روائية تنتمى لعالم «نجيب محفوظ» تعكس رؤيته النافذة والبصيرة لما كان يجرى على مسرح الزمان الذى أعقب ثورة يوليو.. وهذه الشخصيات هى «سعيد مهران» فى «اللص والكلاب».. و«عيسى الدباغ» فى السمان والخريف».. و«عمر الحمزاوى» فى «الشحاذ».. و«صابر الرحيمى» فى «الطريق».. و«أنيس زكى» فى «ثرثرة فوق النيل».. و«سرحان البحيرى» فى «ميرامار» و«صبرى جاد» و«عبدالرحمن شعبان» فى «المرايا». والحقيقة أن تحليل «صلاح عيسى» لأبعاد تلك الشخصيات الاجتماعية والنفسية والفكرية هو تحليل بالغ العمق والدلالة، فهو يسبر أغوار الشخصية بذكاء نفاذ، ويعيد قراءتها وتفسير نوازعها وتشكيل دوافع سلوكها واستخلاص معنى وجودها، وفك ألغاز حيرتنا تجاهها وكأنه مبدعها وصانع أحداث حياتها والمسئول عما آل إليه مصيرها، ويربط بين التركيبة النفسية للشخصيات وبين الحتمية الاجتماعية والإطار التاريخى الذى تتحرك فيه دونما أن يصدر أحكاماً أخلاقية عليها، وبأسلوب شديد الجاذبية والإمتاع لا يخلو من طرافة ولا تنقصه سخرية رقيقة محببة. يرى «صلاح عيسى» مثلاً فى شخصية «سعيد مهران» أنها تنويعة أخرى على ذلك النمط من اللصوص وأولاد الليل الذين حولتهم المخيلة الشعبية من قطاع طرق إلى أبطال ومن لصوص إلى مناضلين.. ويبرز التعاطف الشعبي - بالرغم من كونه قاتلاً مجرماً - على اعتبار أن المصريين عموماً يقدسون علاقة العيش والملح ويزدرون خيانة علاقات الصداقة والأخوة. أما أغرب ما يدعو للدهشة فيما يتصل بالتجاهل النقدى «لنجيب محفوظ» فهو ما نلمحه إزاء آخر إبداعاته وهى «أحلام فترة النقاهة» التى كتبها وهو يدخل عامه الخامس والتسعين حيث كان القلب ما زال ينبض بعطاء أخاذ مفعم بعطر الأشواق وسحر الحب وعصير الحكمة وعمق التجربة وجموح الخيال وطرافة السخرية.. كان العقل الكبير ما زال قادراً على الإبهار والتجديد والتطوير وتجاوز وهن الجسد وارتعاشة اليد.. وما زالت الروح الحارة المتألقة أكثر حيوية ومعاصرة وشباباً وتجريباً وتحديثاً وجرأة فى اقتحام عوالم جديدة وأشكال غير مألوفة فى الطرح والتعبير والصياغة والحبك والسبك. يقول أديبنا الكبير فى أحد الأحلام: «اشتد العراك فى جانب الطريق حتى غطت ضجته ضوضاء المواصلات ورجعت إلى البيت متعباً وهناك تاقت نفسى إلى التخفف من التعب تحت مياه الدش فدخلت الحمام فوجدت فتاتى تجفف جسدها العارى فتغيرت تغيراً كلياً.. واندفعت نحوها ولكنها دفعتنى بعيداً وهى تنبهنى أن ضجة العراك.. تقترب من بيتى». إنه فى أسطر قليلة موجزة وسلسة وواضحة وخالية من الزخرف اللفظى ومن الإطناب والتزيد عارية من المحسنات البديعية والصور البيانية مجردة من استعراض مهارات الوصف والحكى يدخل مباشرة إلى قلب الوجود.. ويا للغرابة.. تتوالد الأفكار وتتكاثر المعانى فى فيض وغزارة وغنى عجيب.. معان موحية بدلالات كبيرة تتصل بقضايا فلسفية عميقة تتحدث عن غربة الإنسان، وعبث الوجود.. ولا معنى الحياة.. آمال لا تتحقق ومنال لا يتم.. ورغبة فى الابتهاج مجهضة. إنه حلم يتبدد وسط وحشة مسيطرة، وشر متحكم، وحزن مقيم ويأس جاثم وصراع عقيم، وأصداء باهتة، وواقع جهم.. وإرادة واهية غير قادرة على مواجهة المجهول أو حماية نفسها من فظاظة واقع كئيب.. وهى دلالات ومعان ربما تعجز عن التعبير عنها روايات بأكملها.. وذلك هو سر عبقرية أديبنا الكبير. فما سر صمت الجهابذة النقاد؟!