كلاهما شرف بالانتماء إلي المؤسسة العسكرية المصرية العتيدة.. وكلاهما أدي دورا وطنيا قبل أن يصبح فوق قمة السلطة الرئاسية لمصر. الأول هو اللواء «محمد نجيب» - الذي خاض المعركة الانتخابية لنادي الضباط والتي فاز برئاسة مجلس إدارته ضد مرشح الملك - وقد قاتل ببسالة أثناء حرب فلسطين «1948» وجرح مرتين.. وتميز بصفات شخصية رشحته لقيادة الحركة المباركة - قبل أن تسمي ثورة 23 يوليو 1952 - فهو طيب القلب.. سليم النية.. يتمتع بصفاء الطوية والصدق والثقة البالغة في قدراته مع مزيد من التواضع بلا تكلف.. وعزوف طبيعي عن استخدام أساليب المكر والدهاء.. هذه الصفات التي أكسبت شخصية الرجل بساطة طبيعية وجاذبية لا تقاوم كانت هي سر قوته كما كانت سر ضعفه - والتي أشار إليها د. «رفعت يونان» في كتابه المهم «محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة» ؟! فقد كان «عبد الناصر» يتوق إلي قائد من هذا الطراز المرن في معاملاته والناجح في اجتذاب الناس ليضمن سرعة استجابة الشعب والجيش للحركة مع التأكد في الوقت نفسه أنه سوف يسهل عليه توجيهه.. والسيطرة عليه في المستقبل.. وقد تمتع نجيب في بداية الثورة بتركيز واهتمام وسائل الإعلام في مصر وخارجها من المناقب الجليلة.. وهالات البطولة، وصفات العظمة ما لم تشهده مصر من قبل إلي الحد الذي حوله إلي شخصية أسطورية لا تتمالك الجماهير نفسها كلما رأته من التصفيق الشديد والهتاف المدوي والتكالب الجنوني علي سيارته. ومازلت أذكر أني ملأت الدنيا صراخا وبكاء وأنا طفل.. رغبة في أن يشتري لي والدي «كابا» أبيض اللون مطبوعا عليه صورة «محمد نجيب» كان منتشرا انتشارا كبيرا وقتها.. كما كانت خطب وأحاديث أعضاء مجلس القيادة من الضباط الأحرار لا تنقطع تمجيدا لعظمته والإشادة بمهارة قيادته إلي الحد الذي جعل أنور السادات يضع اسمه علي رأس أعظم عشرة رجال في العالم في استفتاء أجرته مجلة المصور «العدد 491-8/5/1953». أما «حسني مبارك» فقد كان قبل اعتلائه السلطة هو نائب رئيس الجمهورية الذي سبق له الاشتراك في حرب أكتوبر المجيدة بصفته قائد القوات الجوية التي قادها فيما يسمي «بالضربة الجوية» والتي تمت بنجاح كبير مهد لمعركة العبور العظيمة. وكلاهما «نجيب» و«مبارك» تمت تنحيته عن منصبه.. الأول في مطلع 1954 والذي اشتعل فيه الصراع بين نجيب ومجلس قيادة الثورة.. وعلي رأسه جمال عبد الناصر، وبلغ ذروته في أزمة مارس.. وحددت إقامته في استراحة بضاحية المرج متهالكة ومهجورة كانت تخص زينب الوكيل زوجة الزعيم مصطفي النحاس باشا أي إنه تم إقصاؤه من قبل زملاء السلاح.. وليس بموجب إرادة شعبية. •• أما مبارك فقد أجبرته ثورة شعبية عظيمة قادها الثوار من الشباب علي التنحي الذي عبر عنه طوفان شامل كاسح من ملايين المصريين في القاهرة وسائر المحافظات بشكل لم يحدث من قبل في التاريخ البشري كله سواء في حجمه الهادر أو في كثافة مشاعر الكراهية الطاغية لحاكم اصطبغ عهده باستشراء فساد لم يسبق له مثيل منذ حكم المماليك.. وكانت مظاهرات ميدان التحرير مصحوبة بهتافات ولافتات سابة لاعنة بعضها فكه في مرارة أو مرير في تفكه، يبقي ماثلا في ذهني منه ما حييت لافتة علقتها أم علي صدر رضيع تحمله مكتوبا عليها: «ارحل يا جدو» في إشارة بالغة الدلالة والعمق إلي رفض جميع الأجيال له.. وعلي خوف «المستقبل» من استمرار نظامه. خرج إذن مهانا مجبرا من قصر العروبة هو وأسرته إلي مكان إقامة جبرية هانئة سعيدة تبعث علي البهجة والحبور.. منتجع مخملي رائع هو «الجولي فيل» في قصر منيف بهيج حينما تسقط عليه أشعة شمس الربيع يبدو ذا «جنابذ» - تعني قباب- من اللؤلؤ.. وجدران من «زبرجد» وأعمدة من «مرمر».. ويقبع في كبرياء وصلف فوق ربوة في جزيرة بحرية ساحرة بمدينة شرم الشيخ. أما «محمد نجيب» فكان قبل أن يدخل معتقل المرج الكئيب.. رصيده في البنك الأهلي المصري 624 جنيها.. وكان كل دخله من مرتبه كرئيس للجمهورية هو مرتب في حدود 6 آلاف جنيه.. تنازل عن نصفه في خطاب رسمي لوزير المالية.. كما سبق أن تنازل عن رتبة الفريق ومرتبها التي صدر بها أمر ملكي بعد الثورة مباشرة يوم 24 يوليو1952 . وبالتالي فقد انخفض معاشه الذي تقرر بعد خروجه من الحكم فأصبح 183 جنيها و866 مليما.. وكان هذا المعاش هو كل دخله تقريبا.. ولم يكن يكفيه ذلك لأنه بجانب مصاريف بيته الشهرية كان ينفق مبلغا من المال علي علاج زوجته، ومبلغا آخر علي تعليم أولاده في الخارج. •• يقول الأستاذ «عادل حمودة» في كتابه «ضحية يوليو» الذي ضمنه الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب.. «ويبدو أن ضغط المصاريف عليه جعله يقوم بعمل ميزانية رقيقة لبيته يوقع عليها بعد مراجعتها بعبارة «صحيح - يعتمد - لواء محمد نجيب» ولو قلبنا في أوراقه سنجد صورة من هذه الميزانية.. ففي ميزانية أبريل 1957 سنجد الوارد 40 جنيها.. والمنصرف 97 جنيها و665 مليما.. والعجز 57 جنيها و665 مليما.. وسنجد في قائمة المصروفات ثمن كتب وقواميس وأجرة تصليح أجهزة كهربائية.. ومساعدات مالية بسيطة لبعض الفقراء.. وبسبب العجز المستمر في الميزانية طلب في عام «1957» استبدال جزء من معاشه وأرسل خطابا بذلك لوزيري الحربية والمالية. عاش نجيب ومات فقيرا.. وكان «جمال عبد الناصر» ديكتاتورا، ولكنه لم يكن فاسدا.. عاش هو وزوجته طوال حياتهما بسيطي الملبس والمأكل دون أي مظهر من مظاهر البذخ وماتا دون أن نعرف لهما ثروة تذكر.. ويحكي «صلاح الشاهد» - وكان مسئولا قبل وبعد الثورة عن شئون البروتوكول والمراسم - أن عبدالناصر رفض رفضا باتا أن يتمتع أولاده بسلع كهربائية مستوردة كانت ممنوعة علي سائر المصريين. انتهي الأمر بمحمد نجيب وحيدا في غرفة نومه ومعيشته بفيللا المرج التي لا تحتوي سوي علي سرير متهالك ينام عليه ويضع عليه الكتب والمجلات التي يقرأها.. كما يضع عليه عصا من البوص اللين يؤدب بها برقة قططه وكلابه التي تنام علي كنبة مجاورة.. ويقضي وقته يناجيهم ويتحدث إليهم فيشكو لهم غدر الرفاق وقسوة الدهر.. إنه يراهم أقرب إليه من البشر.. إنهم أكثر وفاء وحبا له منهم. أما مبارك فإنه يقضي يومه مسترخيا علي شاطئ بحر شفيف هو شريط من حرير أزرق.. يحدق هائما في أفق لا نهائي. عن يمينه طائرة خاصة رابضة في تأهب وتململ.. وعن يساره يخت أنيق يرسو علي رمال ناعمة متلألئة .. وتعبث تحت قدميه في مائها أسماك رقيقة ملونة.. وفوقه طيور بحر من نورس وبلابل وعصافير ترفرف مغردة فيظنها تشدو له.. وتظنه يريدها طوع بنانه فتفر مبتعدة مذعورة مندهشة متسائلة : ألا يكفيه ملياراته المنهوبة ومليارات الهانم والأنجال والأقارب والأحباب والأصدقاء.. ومغارة الذهب والياقوت والمرجان والزمرد التي ذهبت إلي خزائنهم في كل أرجاء الدنيا.. ولن تعود ؟!