فى بلدٍ يملك تقويمًا حضاريًا يمتد لآلاف السنين، تبرز العديد من المؤسسات المهمة التي يتعدى نشاطها قرنا من الزمان، واستطاعت مصر منذ عشرات السنين تشييد مؤسساتٍ جعلت من الدولة نموذجًا مستقراً، وتحتفظ في سجلها بواحدة من أهم المؤسسات الدينية والفكرية، وهي دار الإفتاء المصرية، المؤسسة التي تدخل عامها المائة والثلاثين وهي لا تزال تمارس دورًا يتجاوز حدود الفتوى إلى صناعة وعيٍ وطني، وضبط وجدانٍ ديني، وصيانة هويةٍ ممتدة من الأزهر إلى عمق المجتمع المصري. واليوم، إذ تطوي دار الإفتاء 130 عامًا من تاريخها، فإنها لا تحتفل بمرور الزمن بقدر ما تستعيد دورها في تأصيل الخطاب الديني الرشيد، وتعزيز استقرار المجتمع، وتقديم مصر — من جديد — كمنارة للعالم الإسلامي في الفقه والاعتدال وعقلانية الفتوى. وقد أصدرتت دار الإفتاء المصرية كتيبًا تاريخيًا يوثق مرور 130 عامًا على تأسيسها منذ عام 1895، حيث يضم الكتيب رؤية ورسالة دار الإفتاء ومهامها المختلفة. مفتو الديار المصرية وفقاً لكتيب الإفتاء فقد صدرت الأمر العالي من الخديو عباس حلمى في 21 نوفمبر 1895 ميلادياً بإحالة إفتاء الديار المصرية إلى الشيخ حسونة النواوى، شيخ الأزهر، فجمع بين منصبى الإفتاء ومشيخة الأزهر.. وبدأ من هذا الوقت تسجيل الفتاوى في السجلات الرسمية، وتولى منذ هذا الوقت وحتى يومنا هذا عشرون مفتيًا منصب الإفتاء، بدءًا من الشيخ حسونة النوّوي، الإمام الأكبر، وحتى فضيلة الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية في عام 2025. إلا أن التأصيل التاريخي يشير إلى أن دار الإفتاء المصرية بدأت قبل هذا التاريخ بخمسين عاماً.. وكان أول مفتٍ هو الشيخ محمد أمين المهدي الذي تولى منصب الإفتاء في شبابه، وهو في عمر العشرين عاماً، وكان وقتها يتعلم على يد الشيخ الخليلي؛ حيث صدرت تعيينه بقرار من إبراهيم باشا والى مصر، وعين شيخه الشيخ الخليلي نائبا له وظل يتعلم منه. وتولى بعد الشيخ المهدي حتى يومنا هذا عشرون مفتيا هم: الشيخ حسونة النواوي عين مفتيا 11 نوفمبر 1895 وحتى 3 يونية 1899 وصدرت عنه 288 فتوى، يليه الشيخ محمد عبده عين مفتيا 3 يونية 1899 وحتى 11يوليو 1905 وصدرت عنه945 فتوى، فيما عين الشيخ بكري الصدفي مفتيا 4 نوفمبر 1905 وحتى 21 ديسمبر 1914 وصدرت عنه 1163 فتوى. وفي 21 ديسمبر 1914 تم تعيين الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتيا وحتى 1 يوليو 1920 وصدرت عنه 2030 فتوى .. ثم عين الشيخ محمد إسماعيل البرديسي مفتيا في 4 يوليو 1920 وحتى 2 يناير 1921 وصدرت عنه 206 فتاوى، يليه الشيخ عبد الرحمن قراعة الذي تولى منصب الإفتاء من 5 يناير 1921 وحتى 5 فبراير 1928 وصدرت عنه 3079 فتوى بينما تولى الشيخ عبد المجيد سليم إلى جانب كونه شيخا للأزهر منصب الإفتاء في 22 مايو 1928 وحتى بداية يناير 1946 وصدرت عنه 15774 فتوى. أما الشيخ حسنين مخلووف فتولى منصب الإفتاء مرتين الأولى من 30 يناير 1946 وحتى 7 مايو 1950.. والمرة الثانية من 26 فبراير 1952 وحتى أكتوبر 1954 وصدرت عنه 8566 فتوى.. بينما تولى الشيخ علام نصار الإفتاء في 12 مايو 1950 وحتى 23 فبراير 1952 وصدرت عنه 2191 فتوى أما الإمام الأكبر حسن مأمون فتولى منصب الإفتاء في 1 مارس 1955 وحتى 19 يونية 1960وصدرت عنه 12687 فتوى .. يليه الشيخ أحمد عبد العال هريدي من 26 يونية 1960، وحتى 17 مايو 1970، وصدرت عنه 8359 فتوى.. ثم تولى الشيخ محمد خاطر محمد منصب الإفتاء في 24 أكتوبر 1970 وحتى أغسطس 1978، وصدرت عنه 2969 فتوى. وفي العصر الحديث تولى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق منصب الإفتاء من 26 أغسطس 1978 وحتى 3 يناير 1982 وصدرت عنه 1282، ثم تولى الشيخ عبد اللطيف عبد الغني حمزة منصب الإفتاء في الفترة من 1 فبراير 1982 وحتى 16 سبتمبر 1985 وصدرت عنه 1117 فتوى وتولى د. محمد سيد طنطاوي منصب الإفتاء في 26 أكتوبر 1986 وحتى 27 مارس 1996 وصدرت عنه 7697 فتوى .. ثم تولى د. نصر فريد واصل منصب المفتي في 10 نوفمبر 1996 وحتى 9 مارس 2002 وصدرت عنه 7982 فتوى، بينما تولى د. أحمد الطيب منصب الإفتاء في 10 مارس 2002 وحتى 27 سبتمبر 2003 وصدرت عنه 2784 فتوى.. تولى بعدها مباشرة د. على جمعة منصب المفتى حتى 3 مارس 2013 وصدرتت عنه 19670 فتوى وفي 4 مارس 2013 تولى د. شوقي علام منصب الإفتاء واستمر فيه حتى 11 أغسطس 2024 وصدرتت عنه 12672 فتوى.. وفي 12 أغسطس 2024 تولى د. نظير عياد مفتي الجمهورية الحالي منصب الإفتاء وصدرتت عنه منذ توليه 1066 فتوى حتى الآن مواقف وطنية.. ومحاربة التطرف ويُعد المفتي الأسبق الشيخ عبد المجيد سليم من أبرز من تصدى مبكرًا لفكرة التكفير السياسي، حين حاولت جماعات متشددة استغلال الدين لتجريم خصومها. رفض الشيخ هذا المنهج تحذيرًا من خطورته على المجتمع، مؤكدًا أن التكفير "باب فتنة لا يجوز أن يُفتح". كما قدّم رؤية ثاقبة ربطت بين الدولة المدنية ومبادئ الإسلام دون تعارض أو صدام. فيما ارتبط اسم الشيخ حسونة النواوي بفتواه التاريخية حول حق الدولة في تنظيم الأسعار ومواجهة الاحتكار، وهي فتوى اعتُبرت حينها تقدمية وجريئة، لأنها وضعت الشريعة في قلب اهتمامات الناس ومعاشهم، وربطت بين الاستقرار الاقتصادي ومقاصد الدين. حسن مأمون…وتنظيم الأسرة بينما ارتبط اسم الشيخ حسن مأمون مفتي الجمهورية الأسبق بإصدار واحدة من أكثر الفتاوى جدلًا في خمسينيات القرن الماضي، حين أجاز تنظيم النسل بوصفه ضرورة اجتماعية. فتواه أحدثت تحولًا فكريًا مهمًا، وأسهمت في نقل النقاش الديني حول قضايا الأسرة من دائرة الحرج إلى ساحة الاجتهاد المعاصر. فيما برز اسم الشيخ أحمد هريدي في مواجهة أفكار جماعات "التكفير والهجرة"، إذ أصدرت فتاوى متعددة تؤكد حرمة العنف واستحالة تبريره دينيًا. واعتبر أن الدولة الحديثة ليست خصمًا للدين بل شريكًا في حماية الإنسان وكرامته. جاد الحق ومعارك الهوية ويعد الشيخ جاد الحق علي جاد الحق — الذي تولى منصب مفتي الديار المصرية قبل أن يصبح شيخًا للأزهر — من أكثر الشخصيات تأثيرًا في الحياة الدينية خلال القرن العشرين. اشتهر بمواقفه الحاسمة التي جمعت بين قوة الحجة الفقهية وصلابة الدفاع عن ثوابت الأزهر. أبرز مواقفه كانت فتواه الشهيرة برفض التطبيع الديني مع إسرائيل، مؤكّدًا أن الاعتداء على الأرض لا يغيّر حكمه اتفاق سياسي عابر، وأن للقدس مكانة لا يجوز التساهل فيها. وكان من أوائل العلماء الذين حذّروا من المدّ الوهابي وتأثيره على هوية المجتمع المصري، رافضًا محاولات استيراد فتاوى متشددة لا تنتمي إلى تقاليد الأزهر الوسطي. طنطاوي وجدل الفوائد فيما أثار الدكتور طنطاوي نقاشًا واسعًا بفتواه التي اعتبرت فوائد البنوك معاملات استثمارية مشروعة، ما فتح باب الاجتهاد واسعًا أمام المؤسسات المالية.. كما كان صوته بارزًا في رفض التكفير والتحريض، ودافع بقوة عن صورة الإسلام كدين يحترم العقل والاجتهاد. أما الدكتور نصر فريد واصل فتوى مبكرة وصريحة تحرّم التحرش، معتبرًا إياه عدوانًا محرمًا على الدين والإنسان. كما حذّر من استخدام النصوص الدينية لتبرير العنف أو التحريض السياسي، وكان من أوائل من لفتوا الانتباه لخطر الفكر المتشدد قبل تمدده. كما قام بإصدار أول فتوى من نوعها بتحريم التدخين بعد جدل فقهي واسع وتم اعتمادها في منظمة الصحة العالمية جمعة و معارك التجديد وفي عهد الدكتور علي جمعة، دخلت دار الإفتاء عصرًا جديدًا من الانفتاح والتجديد، حيث أطلق منظومة كاملة لمواجهة الفتاوى الشاذة، وقدم عشرات الفتاوى والاجتهادات التي تخاطب الشباب والمثقفين. اشتهر بموقفه الصارم من العنف عقب ثورة يناير، مؤكدًا أن الدم المصري "خط أحمر لا يجوز المساس به". كما شهدت فترة الدكتور شوقي علام نقلة نوعية في مواجهة الإرهاب الفكري. أطلق "مرصد الفتاوى التكفيرية"، و"المؤشر العالمي للفتوى"، وقدم دراسات كشفت جذور خطاب العنف لدى جماعات مثل داعش والإخوان. كما أكد أن الانضمام إلى جماعات العنف يُعد اعتداءً شرعيًا وقانونيًا على الدولة والمجتمع. ومع تولي الدكتور نظير عياد منصب الافتاء، اتجهت دار الإفتاء نحو عصر رقمي متكامل يعتمد على التكنولوجيا الحديثة في تقديم الفتوى. كما عزز الحضور الدولي للدار، ووسّع دورها في مواجهة التضليل الإلكتروني، مؤكدًا أن الإفتاء المعاصر يجب أن يجمع بين الأصالة والترقية الرقمية.