فى عام واحد فقط، تحولت سوريا من دولة كانت تمتلك منظومة ردع استراتيجية، رغم كل التحديات والحروب التى خاضتها، إلى ساحة مفتوحة أمام التوغل الإسرائيلى المباشر والممنهج، دون رادع عسكرى أو سياسى فعال. منذ اللحظة التى سقط فيها النظام السابق فى 8 ديسمبر 2024، انهار حاجز الخوف الذى ظل قائمًا لأكثر من نصف قرن أمام جيش الاحتلال الإسرائيلى، فلم يعد الأمر مجرد ضربات جوية بعيدة المدى أو استهدافات محدودة فى عمق الأراضى السورية، بل تحول إلى احتلال برى علنى، وإقامة حواجز تفتيش، وبناء قواعد متقدمة، وصولًا إلى زيارات استفزازية لرئيس وزراء الاحتلال نفسه فوق قمم جبل الشيخ السورى. ما كان يُعتبر فى السابق «خطا أحمر» غير قابل للتجاوز، أصبح اليوم واقعًا يوميًا يعيشه السوريون فى الجنوب: دبابات إسرائيلية تجوب القرى، ومستوطنون متطرفون يخططون لمستوطنات جديدة، وطائرات حربية تحلّق فوق دمشق دون أى اعتراض. خلال 365 يومًا فقط، نجحت إسرائيل فى تحقيق ما عجزت عنه خلال سبعة عقود من الصراع: تدمير البنية العسكرية السورية بالكامل، احتلال مساحات تفوق ستة أضعاف ما احتلته عام 1967، والوصول إلى مسافة أقل من 30 كيلومترًا من قلب العاصمة. هذا ليس مجرد تغير فى موازين القوى، بل هو أكبر عملية إعادة رسم للخريطة الجيوسياسية فى المنطقة منذ نكسة 1967، وأخطر تحوّل استراتيجى تشهده سوريا منذ تأسيسها الحديث. ما سنستعرضه فى السطور التالية هو تفاصيل هذا التحول المريع، خطوة بخطوة، ومنطقة بمنطقة، وما يعنيه بالنسبة لسوريا والإقليم بأسره. مناطق نفوذ بحسب تقارير ميدانية، امتدت مناطق نفوذ قوات جيش الاحتلال الإسرائيلى داخل سوريا، على مساحة تزيد على 60 كم، حيث توغلت قواته إلى عمق على مسافة تتراوح ما بين 25 إلى 30 كم من قلب العاصمة دمشق، مع السيطرة على جبل الشيخ الاستراتيجى وباقى هضبة الجولان مع الزحف إلى ريف درعا، وهوما مهد الطريق إلى العملية الإرهابية الأخيرة لقوات الاحتلال فى بلدة بيت جن بريف دمشق، والتى أدت إلى سقوط مدنيين. فبعد سقوط النظام السورى السابق بقيادة الرئيس بشار الأسد فى 8 ديسمبر 2024، استولت إسرائيل على الجزء السورى من جبل الشيخ، الذى تشترك فى قمته مع لبنان، لتأسس موقعين عسكريين على قمته قام رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو وزوجته بزيارتهما، وجاء ذلك عقب السيطرة على المنطقة العازلة بين سوريا وهضبة الجولان المحتلة، وهى المنطقة التى كانت جزءًا من اتفاق فض الاشتباك فى عام 1974، ليتم خرق الاتفاق من جانب إسرائيل على إثر ذلك. سيطرت قوات الاحتلال الإسرائيلى خلال عام، على ما تبقى من مرتفعات الجولان الاستراتيجية، بالإضافة إلى جبل الشيخ وكذلك بلدات عديدة فى القنيطرة، تبعها السيطرة على قرى وبلدات فى ريف درعا الغربى، منها صيدا الجولان وجملة والمعرية وعين ذكر وكويا وعابدين وغيرها. ووصلت الدبابات الإسرائيلية إلى عمق ما يعرف ب«مثلث حوض اليرموك» الذى يعتبر أغنى نبع مائى، والواقع باتجاه الحدود الأردنية السورية، والذى يُعرف أيضًا بأهميته العسكرية. أهمية استراتيجية تكمن أهمية سيطرة قوات الاحتلال على جبل الشيخ الاستراتيجى، فى عدة نقاط، يأتى فى صدارتها أن قمته التى ترتفع 2814 مترًا فوق مستوى سطح البحر، تطل على كل الثلاث دول، حيث تكشف دمشقولبنان وفلسطين المحتلة بشكل يمثل نوعًا من المراقبة التى تتفوق فيها إسرائيل من خلال إقامة النقاط العسكرية المتقدمة، فضلًا عن أن هذه السيطرة لها بعد «رمزى» لجيش الاحتلال. وفى ظل استيلاء قوات الاحتلال على جزء كبير من القنيطرة، ذهب إسرائيليون متطرفون فى الأسابيع الأخيرة بعد عبور الحدود لإقامة مستوطنات، وإقامة سواتر أسمنتية ومستشفيات ميدانية وقواعد عسكرية ونقاط مراقبة متقدمة خاصة فى القسم الغربى من جبل الشيخ، ليتشكل واقع عسكرى جديد بفرض الاحتلال شريطًا أمنيًا بعرض 15 كم ببعض مناطق الجنوب السورى يشمل القنيطرة ودرعا والسويداء وريف دمشق. عومل الردع تشكل هذا الواقع، بعدما فقدت سوريا بعد 8 ديسمبر 2024، عوامل الردع التى كانت تمتلكها طوال عقود منذ تأسيس الجمهورية العربية السورية 1944، وعلى الرغم من انشغال الجيش العربى السورى قبل سقوط النظام السابق، على مدار 14 عامًا بمحاربة الجماعات الإرهابية، التى أرسلت إلى البلاد من شتى أنحاء العالم، إلا أن إسرائيل لم تستطع أن تكسر منظومة الردع السورية. كانت تمتلك سوريا، خطوطًا وقواعد اشتباك محفوظة ولم تجرؤ إسرائيل أن تتخطاها، لتخسر دمشق كل القوة التى كانت لديها خلال 76 ساعة فقط، مع القصف الإسرائيلى المتواصل الذى جرى على كل مواقع الجيش السورى والبنية التحتية والمؤسسات العسكرية والخدمية والأمنية ومنظومات الدفاع الجوى والمطارات والتى تم بناؤها على مدار أكثر من 70 عامًا، بمجرد سقوط البلاد فى 8 ديسمبر 2024. تدمير ممنهج خلال عام فقط، قامت إسرائيل بعملية تدمير ممنهجة لهذه المنظومة العسكرية السورية، لتشكل دولة الاحتلال واقعًا لم تكن تحلم به طوال تاريخها منذ التأسيس فى عام 1948، لتخرج سوريا من معادلة الردع بعد تدمير البنية الاستراتيجية والعسكرية والبحثية وما تمتلكه بنية عسكرية من مطارات وقواعد وشبكات اتصالات وردارات ومراكز رصد متطورة وتلال استراتيجية، أو ما يسمى «مثلث الموت»، الذى يشار به إلى المرتفعات الاستراتيجية جنوبدمشق وصولًا إلى درعا والسويداء والذى كانت تتواجد فيه عدة فرق عسكرية بكامل التجهيزات والعتاد. بحسب تقديرات خبراء عسكريين سوريين، فقد استولت قوات الاحتلال الإسرائيلى واحتلت مناطق وتوغلت فى أخرى بعد 8 ديسمبر 2024 بما يصل إلى 6 أضعاف مساحة الجولان السورى المحتل فى عام 1967 البالغ 1200 كم. فيما وسعت من سيطرتها فى الأشهر الأخيرة على 500 كم أخرى من المساحة الإجمالية للجولان البالغة 1800 كم، وهوما مكنها من امتلاك حرية الحركة فى الدخول والخروج من وإلى الأراضى السورية وحرية وصول الطائرات والحوامات الإسرائيلية إلى جميع المناطق السورية بلا استثناء، مما أدى إلى كشف سوريا عسكريًا واستراتيجيًا. بلدة بيت جن لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية فى سوريا على السيطرة على الأراضى والمواقع الاستراتيجية، بل بلغ بجيش الاحتلال الأمر للتعدى على سكان البلدات، وكان آخرها ما جرى فى بلدة بيت جن السورية الواقعة فى ريف دمشقالجنوبى، حيث نفذ جيش الاحتلال عملية توغل برى فى البلدة بدعوى اعتقال مطلوبين، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة مع الأهالى. وأسفر اعتداء قوات الاحتلال على البلدة عن سقوط ما يصل إلى 13 ضحية من سكان البلدة، بينهم مدنيون، وإصابة عدد من الجنود الإسرائيليين، واستخدمت فيه تل أبيب غطاءً جويًا ومدفعيًا، مما أدى إلى تضرر بعض المنازل ونزوح بعض العائلات، لتخرج الحكومة السورية لتعبر عن إدانتها لهذا الاعتداء ووصفه بأنه «جريمة حرب»، ويقدم مندوب سوريا فى الأممالمتحدة شكوى رسمية ضد الاحتلال.