فى السنوات الأخيرة، عادت مصر لتكتب فصلًا جديدًا فى علاقتها بالفن والسياحة، عبر مهرجانات ضخمة أعادت الروح للمحافظات، وربطت بين جمال المكان وعمق الثقافة. من أسوان التى تستيقظ على تعامد الشمس، إلى سفح الأهرامات الذى يحتضن الموسيقى العالمية، وصولًا إلى قلب القاهرة القديمة الذى عاد لينبض بالأغانى والموروث.. أصبحت المهرجانات الفنية والسياحية بمثابة جسر يعيد ربط الجمهور بتاريخ بلده، ويمنح المدن المصرية فرصة لتلمع عالميًا بروح جديدة. إنها مواسم للاحتفاء بالحضارة، وتأكيد على أن مصر لا تملك تاريخًا فحسب.. بل تصنع مستقبلًا ثقافيًا متجددًا يعرف كيف يجذب العالم إليه، وكيف يزرع الفنون فى أرضه مرة أخرى.
مهرجان الفسطاط الشتوى.. حين تعود الروح إلى قلب القاهرة القديمة فى قلب القاهرة التاريخية، حيث يتداخل عبق الماضى مع نبض مدينة لا تنام، وُلد «مهرجان الفسطاط الشتوى» كنافذة جديدة تُطل منها الفنون على حديقة تلال الفسطاط، فى نسخة أولى تحمل شعارًا يشبه الوعد: «الفسطاط رجعت تانى». منذ 14 نوفمبر وحتى ختامه مساء اليوم السبت 6 ديسمبر، تحوّلت الأرينا المفتوحة إلى مسرح واسع للضوء والموسيقى، واستعادت المنطقة التى كانت يومًا تلالًا من الرماد والخراب، صورتها الحضارية التى تستحقها. بمشهد احتفالى لافت، زينت الطائرات الشراعية السماء فوق الافتتاح، تحمل ألعابًا نارية وعلم مصر، بينما اعتلى الموسيقار الكبير «عمر خيرت» منصة الافتتاح، ليمنح المهرجان لحنه الأول، وسط حضور جماهيرى ورسمى مهيب. وتتابعت الليالى بعده كأنها سردية موسيقية طويلة، تتنوع بين الأصوات المصرية والعربية: «آمال ماهر، تامر عاشور، أحمد سعد، مروان موسى»، وغيرهم ممن أحضروا أنماطًا غنائية مختلفة إلى المكان نفسه، فالتقت الرومانسية مع الإيقاع الحديث، والتراث مع البوب، فى مشهد يجمع أجيالًا متعددة تحت سماء واحدة. ولم يكن الاحتفال فنيًا فحسب، بل حمل أيضًا قيمة رمزية عميقة، أكّدها رئيس الوزراء «د.مصطفى مدبولى» فى كلمته أثناء التدشين، وهو يسترجع قصة هذه الأرض التى كانت مهجورة، قبل أن تتحول من مقالب قمامة ومناطق عشوائية إلى واحدة من أكبر الحدائق المركزية فى الشرق الأوسط، منطقة كانت تُعد غير صالحة للحياة، فأصبحت اليوم مقصدًا للاحتفال والفن والحضارة، بعد جهد استمر سنوات وتوجّه سياسى أراد استعادة القلب التاريخى للقاهرة. ومع اقتراب ختام المهرجان الليلة، يبدو «الفسطاط الشتوى» كأول خطوة نحو عودة المنطقة إلى مركزها الطبيعى: مساحة حية تلتقى فيها الموسيقى مع التاريخ، والفنان مع الجمهور، والمكان مع روحه الأولى. إنه إعلان مُبهج بأن القاهرة القديمة لا تزال قادرة على أن تضيء من جديد.. حين تجد من يستمع لصداها.
مهرجان صدى الأهرامات.. حين تتحوّل الحضارة إلى موسيقى مضيئة على سفح الأهرامات، حيث يقف الحجر شاهدًا على آلاف السنين، وُلد مهرجان «صدى الأهرامات» كاحتفال عالمى يعيد وصل الفن بروح التاريخ. فى الفترة من 24 إلى 30 نوفمبر الماضى، تحوّل مسرح بانوراما الأهرامات إلى نقطة التقاء بين الشرق والغرب، وبين الماضى العميق والفنون المعاصرة، تحت شعار يليق بالمكان: (مهد الحضارات.. ملتقى الفنون والثقافات). افتتحت الدورة بحفل استثنائى للعازف العالمى «لانج لانج»، الذى عاد إلى مصر بموسيقاه المدهشة، مصحوبًا بالأوركسترا الملكى الفيلهارمونى بقيادة «بن بالمر»، وسط حضور لامع من الفنانين والشخصيات العامة. ثم تتابعت الليالى كعقدٍ من الضوء: أمسية موسيقية لروائع «عمار الشريعى وهشام نزيه» بصوت السوبرانو «أميرة سليم»، مرورًا بليلة هوليوودية مبهرة قدّمت فيها «كارلا شمعون» أشهر أعمال السينما العالمية، وصولًا إلى أمسية عربية خاصة جمعت «عبير نعمة وفايا يونان» فى رحلة بين مقامات التراث وروح العصر. وجاء اليوم الخامس بتتويج مصرى خالص، عبر حفل «جالا» الذى جمع أصوات مصرية أوبرالية لامعة تحت سفح الأهرامات، بينما جاءت ذروة الختام مع الفنان الكازاخستانى العالمى «ديماش كودايبرجن»، صاحب الصوت الاستثنائى، ليقدّم أول عروضه فى مصر والعالم العربى، فى ليلة بدت وكأنها لقاء بين الفن والدهشة. ولم تتوقف أصداء المهرجان عند نوفمبر، إذ تستمر فعالياته فى ديسمبر الجارى ولكن هذه المرة تقام فى مدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة عبر عروض باليه «إيفمان بطرسبرج»، حيث تمايلت الأجساد على موسيقى راقية، تكمل الصورة التى أرادها المهرجان: منصة عالمية تُعيد للفن الرفيع مكانه فى وجدان الجمهور المصرى. إن «صدى الأهرامات» ليس مجرد مهرجان، بل محاولة صادقة لإحياء علاقة الإنسان بالموسيقى، وإعادة تعريف موقع مصر كجسر حضارى يربط الثقافات.. فى المكان الذى علّم العالم معنى الخلود. مهرجان تعامد الشمس.. احتفالٌ تستيقظ فيه أسوان على موسيقى التاريخ فى أسوان، حيث تلتقى زرقة النيل بوهج الصحراء، انطلقت فعاليات مهرجان تعامد الشمس لتعيد للمدينة سحرها الأزلى، وتحوّل أيامها بين 17 و22 أكتوبر الماضى إلى مسرح مفتوح للضوء والفلكلور وروح مصر القديمة. ومن داخل السوق السياحية، شهد اللواء «د. خالد فودة» واللواء «د.إسماعيل كمال» لحظات الافتتاح، بينما تصاعدت الأهازيج ورقصت الخطوات على إيقاع ثمانى فرق للفنون الشعبية حملت معها ملامح الدلتا والصعيد والنوبة وسيناء والقناة، فى لوحة تعكس اتساع الهوية المصرية وتنوّعها. المهرجان الذى تنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة برعاية وزارة الثقافة ومحافظة أسوان، جاء هذا العام أكثر اتساعًا وحضورًا، فالعروض التى قدّمتها الفرق من أسوان والأقصر وملوى وسوهاج وكفر الشيخ وبورسعيد والأنفوشى والعريش جابت 11 موقعًا ثقافيًا وسياحيًا فى المحافظة، من مسارح قصور الثقافة وصولًا إلى ساحة أبوسمبل، حيث يكتمل المشهد بحضور الشمس فجر 22 أكتوبر لتلامس وجه رمسيس الثانى، فى واحدة من أندر الظواهر الفلكية التى أبدعها العقل المصرى القديم. روح الاحتفال امتدت بين الجماهير والأفواج السياحية التى احتشدت فى شوارع أسوان وأسواقها، بينما أكّد المحافظ اللواء «إسماعيل كمال» أن المهرجان ليس مجرد فعالية فنية، بل رسالة متجددة تكشف عبقرية المصرى وصموده، وتكرّس مكانة أسوان على خريطة العالم. وقدّم الشكر لجميع الجهات المشاركة لما بذلوه من جهد لإخراج الحدث بصورة حضارية تليق بتاريخ المدينة. واستمرت الأجواء الاحتفالية فى أبو سمبل فى الليلة التى تسبق لحظة التعامد، حيث عادت الفرق لتقدّم فنونها أمام الزوار، قبل أن يُختتم المهرجان داخل المعبد نفسه لحظة شروق الشمس.. حين يصبح الضوء عرضًا فنيًا لا يشبهه شيء.