الشرق الأوسط الذى استقبل البابا لاون الرابع عشر.. ليس هو ذلك الشرق الذى عرفته الدبلوماسية التقليدية. شرق يتقاتل على هويته السياسية والوطنية، شرق ممزق فى مجمله حتى لو المعلن تماسك بعض دوله، شرق أصبح يحكم العديد من دوله قوتان عسكريتان.. إحداهما الجيش الوطنى والآخر ميليشيا وجماعات غير رسمية. فى قلب هذه الفوضى، يحضر الفاتيكان.. ليس فقط بمكانته الروحية لأتباعه، بل كلاعب سياسى رئيسى له تأثيره.. ويضع قدميه فى أخطر رقعة شطرنج فى العالم الآن. زيارة أكثر من كونها دينية، وأكثر من كونها رمزية، وأكثر من حدث بروتوكولى. زيارة تمثل حالة من الاشتباك والتدخل فى معركة إعادة تشكيل الشرق وصياغة ملامحه الجديدة على مستوى الوعى والوجود والتاريخ. إزنيق واستدعاء التاريخ.. زيارة البابا لاون إلى إزنيق ليست نزهة، بل تحمل العديد من الرسائل السياسية، على غرار: أولًا: رسالة إلى روسيا تحت عنوان «لن نترك العالم الأرثوذكسى لك وحدك فقط». خاصة أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية هى أحد أهم أدوات نفوذ الكرملين من موسكو إلى البحر المتوسط. وهو ما يعيه الفاتيكان جيدًا. ولذلك وقع الاختيار على نيقية (مدينة إزنيق حاليًا) باعتبارها قلب المسيحية الأولى المتفق عليه من جميع الطوائف المسيحية على مستوى العالم. وكأنه إعلان أنه إذا كانت لكم أوكرانيا وأورثوذكسيتها، فلنا نيقية بتاريخها وجذورها.. كاستدعاء لصراع روحى – جيوسياسى بلا صدام أو مواجهة. ثانيًا: رسالة إلى تركيا تحت عنوان «هنا ترسخت أن المسيحية فى أحد أهم المجامع التى اتفق عليها جميع المسيحيين، وهى حقيقة لا يمكن تجاهلها». وهو نوع من المواجهة الدبلوماسية الناعمة دون صدام للرد على أن تركيا تريد هوية عثمانية لا مكان فيها للتاريخ البيزنطى. كما أنها إشارة للانتباه لبعض الملفات الجدلية الشائكة، على غرار: الأقليات الدينية، والهوية الدينية، والكنائس، والتاريخ البيزنطى، ودور بطريركية الروم. ثالثًا: رسالة إلى الغرب تحت عنوان «أوروبا فقدت بوصلة الشرق..» للتنبيه من الصمت الأوروبى على أهمية الملف التركى – المسيحى.. بفتح الباب للفاتيكان لتوجيه خطاب جديد.. خطاب لا يخضع لأسواق السلاح ولا لابتزاز الهجرة. رفض المحور الواحد.. لبنان بلد يواجه تحديات البقاء والتماسك. وزيارة البابا لاون تؤكد بصوت غير معلن «إذا مات لبنان.. مات وجود التعدد فى الشرق». هذه الزيارة لا تمثل دعمًا للسياسيين اللبنانيين مثلما كتب البعض، ولكنها رسالة عتاب وتوبيخ للسياسيين الذين حولوا وطنهم من دولة للتعددية إلى ساحة فساد وصراع طائفى. المسيحيون اللبنانيون يتراجعون ديموجرافيًا، والدور المسيحى يتآكل سياسيًا رغم وجوده دستوريًا فى المعادلة السياسية، ولبنان يتمزق. وهو ما يراه الفاتيكان كتهديد للوجود والحياة. ولذا كانت رسالته «لا يجب أن يترك لبنان يسقط فى متاهة محور واحد» سواء أرادت القوى الداخلية أم لم تشأ، وأنه لا يجب تركها تدار من خلال طرف سياسي واحد. وذلك فى سبيل حماية معادلة التنوع والتعايش اللبنانى. هذه الزيارة.. هى محاولة لسد الفراغ وإعادة لبنان إلى طاولة المفاوضات الدولية بالقوة الأخلاقية فى ظل غياب واشنطن، وارتباك أوروبى، وحضور إيرانى بقوة. خطوط النار السنية – الشيعية.. الملاحظ، أن هذه هى المرة الأولى التى يقترب فيها الفاتيكان من الصراع المذهبى فى الاقليم ليس من زاوية السلام، بقدر ما هى من زاوية إدارة التوازن. وذلك للتأكيد على أن لبنان ليست مستباحة للسيطرة الشيعية، ورفض محاولات الاستقطاب وفرض الأمر الواقع لما يمكن أن نطلق عليه «الاحتكار السياسى فى لبنان». وفى المقابل، التأكيد على أن التأثير السنى سيأتى عبر التعددية، وليس عبر الاقصاء. وهو ما يحدث فى ظل إدراك الفاتيكان للدور الذى يبحث عنه السنة فى الإقليم بعد سنوات من الإخفاقات والانكسارات. وذلك لتأكيد معادلة تثبيت مكانة المسيحيين اللبنانيين كشركاء، وليسوا كأرقام حسبما نصت اتفاقية الطائف للمحاصصة فى الحياة السياسية اللبنانية. الفراغ المذهبى.. يعد البابا لاون هو أول من دخل لساحة النزاع المذهبى بلا خوف. رغم مخاوف دول الإقليم لسنوات طويلة من مواجهة الانقسام السنى – الشيعى. ولذا كان خطاب البابا منذ بدايته وحتى نهايته خلال فترة الزيارة دقيقًا ومتوازنًا بين عدم الإدانة، وعدم المساواة.. لمنع الفراغ من ابتلاع لبنان والمنطقة. سرديات إسرائيلية.. الملاحظ دائمًا، أن إسرائيل لا تخشى من التصريحات، بل من الرموز. وزيارة البابا لاون إلى نيقية ولبنان تحمل رموزًا.. تتعارض مع الروايات الإسرائيلية. وهو ما يمكن أن نحدده فى: 1 – تخشى إسرائيل من خطاب «المسيحية الشرقية» وفى قلبها المسيحيون الفلسطينيون لكونهم يؤكدون حقيقة أن للمسيحية ليست دين الغرب وحده، خاصة أنها نشأت فى الشرق. وهو ما يضرب الرواية الإسرائيلية أمام الغرب الذى تحاول استقطابه دائمًا. 2 - الفاتيكان يعيد القدس إلى مركز الحوار العالمى دون بيانات نارية ومواقف عنترية، ولكن بالتمسك بإعادة تفعيل ملف «القدس» كمدينة الصلاة التى هى حق لجميع المؤمنين بالأديان السماوية. والتحذير من خطورة تهجير مسيحيى القدس. 3 – تخشى إسرائيل من أى تنسيق بين الفاتيكانوتركيا.. خاصة فى ملف الأماكن المقدسة، حيث أنقرة تملك أوراقًا كثيرة للتأثير بينما يملك الفاتيكان التأثير الأخلاقى. انعكاسات عربية.. يتجاهل الكثيرون أن زيارة بابا الفاتيكان للمنطقة هى زيارة شديدة الحساسية، وأن جميع الدول تراقب الزيارة لدلالاتها وتأثيرها وما يمكن أن يترتب عليها. خاصة فى ظل التطورات غير المسبوقة فى الإقليم بما فيها من إقرار شكل جديد من التوازنات الدينية. وعلى سبيل المثال: الانفتاح الثقافى والتوسع الاقتصادى الذى تشهده المملكة العربية السعودية، وإعادة صياغة دور الدين فى المجال العام بإقرار التعددية الدينية، والقيام بدور سياسى إقليمى فى المنطقة. وهو ما يعنى وجود قاسم مشترك فى تصدر مشهد الاعتدال والتسامح والتعايش بين السعودية التى تقدم نفسها كمرجعية إسلامية، والإمارات التى تقدم نفسها كدولة للتسامح العالمى، وقطر التى تقدم نفسها كراعية للحوارات الدولية من جانب. وبين الفاتيكان الذى يقدم نفسه فى المساحة نفسها للكاثوليك بشكل خاص، وللمسيحيين على مستوى العالم بشكل عام من جانب آخر. وهو ما يمكن أن يتعارض مع التوجهات التركية التاريخية. التنافس الصامت.. ولا ننسى فى هذا المضمار، ما يخشاه تيار الإسلام السياسى وموالاته فى المنطقة من رد الاعتبار للمسيحية الشرقية المهمشة والمستبعدة باعتبار أتباعها من الأقليات، وبين التوظيف البراجماتى لوجود المسيحية الشرقية كمدخل لتوطيد العلاقات مع الغرب. وهو ما يفتح الباب لمناقشة أحوال المسيحيين، وما حدث من تفريغ تاريخى لهم فى الشرق سواء بسبب الاحتلال مثلما حدث فى فلسطين أو بسبب الخوف من الطائفية والتطرف والإرهاب مثلما حدث فى سوريا والعراق. والسؤال المنطقى الآن: هل سيتعارض دخول الفاتيكان فى معادلات المنطقة مع توجهات دول الخليج من خلال تنافس صامت أم سيكون هناك نوع من الاستقطاب لشراكات ومبادرات دولية قادمة؟! واستمرار محاولات كل طرف فى الاحتفاظ ببعض الملفات الدبلوماسية دون تدخل أو شراكة؟ نقطة ومن أول السطر.. دلالات زيارة البابا لاون يحكمها إطار السلام والتعايش فى ظل إعادة رسم توازنات القوة فى الشرق. وهى زيارة تحمل رسالة بأن دول الشرق الأوسط لن تترك لإيران وتركيا وإسرائيل وحدها، وأنه لن يكون هناك لاعب حصرى فى بناء السلام والاعتدال. ملاحظة أخيرة: حاولت تركيا أن تستفيد من الزيارة لتحسين صورتها، وتمرير عدم إحراج الإسلام السياسى أمام الغرب. واجتهد الفاتيكان أن يضغط دون أن يتكلم، ويتحرك دون أن يهدد.. ويسهم فى إعادة تشكيل صورة تركيا أمام العالم. إنها زيارة تربك الخرائط التقليدية فى موسكو وطهران وأنقرة وتل أبيب. وتضع الجميع أمام واقع جديد.. يؤكد على أن الفاتيكان عاد، ولن يغادر المشهد قريبًا. 1709