«الاتحاد»: عيد تحرير سيناء يحمل ذكريات الفخر على أغلى بقعة من أرضنا    وزير العمل يسلم 25 عقد عمل لذوي الهمم بجنوب سيناء    إحالة بيان الحكومة بشأن الموازنة إلى لجنة "الخطة".. ورفع الجلسة العامة حتى 7 مايو    «السعيد» تكشف خطة الاستثمارات في قطاع التعليم المدرسي والجامعي    بروتوكول تعاون بين "العمل" و"التربية والتعليم" لتأهيل الشباب السيناوي    البورصة المصرية تختتم بهبوط المؤشرات وتراجع رأس المال السوقي    فيديو| فتح باب التصالح على مخالفات البناء.. أبلكيشن لملء البيانات وتفاصيل استعدادات المحافظات    إيران تدين العقوبات الأوروبية المتوقعة وتصفها بأنها " غير قانونية"    روسيا تهدد بتعزيز الهجمات على أوكرانيا ردا على المساعدات الأمريكية لكييف    ترامب يهاجم جلسات محاكمته: وصمة عار وفوضى    محترفو الفراعنة × أسبوع| صلاح يخسر بطولة وغياب تريزيجيه والنني وفوز لمرموش ومصطفى محمد    الأهلي: عقود الرعاية تمثل أهمية كبيرة للنادي في ظل حجم الانفاق    نجم العين يتحدى الهلال قبل موقعة نصف نهائي أبطال آسيا    وزير الشباب ومحافظ شمال سيناء يشهدان ختام مهرجان الهجن    أستون فيلا يمدد عقد إيمري حتى 2027    إحباط تهريب "حشيش وماريجوانا" داخل مطار الغردقة الدولي    محافظ المنوفية يتابع استعدادت المحافظة لامتحانات آخر العام والأعياد والإزالات    11 معلومة مهمة بشأن امتحانات الثانوية العامة.. ما الضوابط الجديدة؟    استحل محارمه وتخلص من طفل السفاح.. الأب واقع ابنته وأنجب منها في الشرقية    رانيا يوسف وصبري فواز أول حضور ندوة سينما المقاومة في غزة    مكتبة الإسكندرية تشهد فعالية "مصر حكاية الإنسان والمكان"    في رمضان 2025.. محمد سامي يفجر مفاجأة بشأن مي عمر    أشرف عن ضوابط تغطية الجنازات: غدا نحدد الآليات المنظمة مع «الصحفيين»    بحضور "عبدالغفار والملا".. توقيع اتفاقيتين لدعم المجال الصحي بمطروح وبورسعيد    موجة حارة وعاصفة ترابية- نصائح من هاني الناظر يجب اتباعها    الرقابة المالية تسمح بحضور الجمعيات العمومية لصناديق التأمين الخاصة إلكترونيا    محافظ بوسعيد يستقبل مستشار رئيس الجمهورية لمشروعات محور قناة السويس والموانئ البحرية    الجامعة العربية تشهد اجتماع لجنة جائزة التميز الإعلام العربي    رئيس جامعة عين شمس يبحث مع السفير الفرنسي سبل تعزيز التعاون الأكاديمي    فيلم "شقو" يحصد 916 ألف جنيه بدور العرض أمس    عبير فؤاد تتوقع ظاهرة غريبة تضرب العالم خلال ساعات.. ماذا قالت؟    فتح أبواب متحف السكة الحديد مجانا للجمهور احتفالا بذكرى تحرير سيناء    وزير العدل: تشكيل لجنة رفيعة المستوى لوضع مشروع قانون ينظم استخدامات الذكاء الاصطناعي    التصريح بدفن جثة طفلة سقطت من أعلى بأكتوبر    محافظ المنيا: تنظيم قافلة طبية مجانية في مركز أبو قرقاص غدا    سيدات سلة الأهلي يواجه مصر للتأمين في الدوري    «نجم عربي إفريقي».. الأهلي يقترب من حسم صفقة جديدة (خاص)    دار الإفتاء: شم النسيم عادة مصرية قديمة والاحتفال به مباح شرعًا    هل يحق للزوج التجسس على زوجته لو شك في سلوكها؟.. أمينة الفتوى تجيب    «النواب» يوافق على اتفاقية بشأن منحة مقدمة من البنك الدولي لتحسين إدارة النفايات الإلكترونية    محافظ كفر الشيخ ونائبه يتفقدان مشروعات الرصف فى الشوارع | صور    مصرع سائق في حادث تصادم بسوهاج    نستورد 25 مليون علبة.. شعبة الأدوية تكشف تفاصيل أزمة نقص لبن الأطفال    هل مكملات الكالسيوم ضرورية للحامل؟- احذري أضرارها    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    فرج عامر: الفار تعطل 70 دقيقة في مباراة مازيمبي والأهلي بالكونغو    السفير طلال المطيرى: مصر تمتلك منظومة حقوقية ملهمة وذات تجارب رائدة    مجلس النواب يحيل 23 تقريرًا برلمانيًّا للحكومة -تعرف عليها    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقصف مناطق لحزب الله في جنوب لبنان    قطاع الدراسات العليا بجامعة القناة يعلن مواعيد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني    رئيس الأركان الإيراني: ندرس كل الاحتمالات والسيناريوهات على المستوى العملياتي    الرئيس السيسى يضع إكليلا من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول    الثلاثاء 23 أبريل 2024.. الدولار يسجل 48.20 جنيه للبيع فى بداية التعاملات    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وشم الدم الحرام يُطهر فريال مرتين! "الحكاية الخامسة"

على صفحات المَجَلّة التى شهدت معاركه وتجربتَه الفريدة، نستعيد مع الأستاذ «عادل حمودة» أحدَ أهَمّ تحقيقاته الصحفية «ستيك هاوس.. شخصيات لامعة فى زنزانة الجنس الانفرادى».
هنا تصبح الكلماتُ بساطًا سحريًا ينقلك لتعرف الكثيرَ من الخبايا خلف الأبواب المغلقة، والبيوت التى ربما نَمُرّ أمامَها كل يوم لكن لا نعرف أىَّ شىء عمّا يدور بداخلها، يغزل بحكاياته الوجه الآخر لمشاهير وصعاليق.. فنانين وكُتّاب.
استطاع بحسّه الصحفى الذى لم يغادره أبدًا أن يغوص بنا فى أعماق وتفاصيل مجتمع «الشخصيات اللامعة»؛ ليظهر لنا جوانب حياتهم التى جاهدوا لبقائها بعيدة عن الأضواء. ينتقل الأستاذ «عادل» من دراسة أسباب انتشار ظاهرة «زنَى المَحارم» فى العشوائيات وقتها، إلى قصر أحد الدعاة الذى تورّط فى علاقة مُحرّمة مع شقيقة زوجته.
أيضًا تكشف حكايات الكتاب الكثيرَ من التناقضات فى المجتمع وقتها فيما يخص علاقتنا بالدِّين؛ حيث يكشف تفاصيل قضية رشوة تورّطت فيها مهندسة مع مقاول شهير، ودخلت معه فى علاقة جنسية «لكنها لشدة تدَيُّنها كانت ترفض أن تلقاه يومَىْ الاثنين والخميس لأنها تصومهما»!
بين العشوائيات والقصور، نتعرّف خلال الحلقات المنشورة على حكايات لم نعلم عنها شيئًا.. حكايات مدهشة رُغْمَ مرور سنوات عليها.. وتفاصيل تؤكد أن فنون العمل الصحفى لا يزال لها بريقُها الخاص وأهميتُها فى رصْد ظواهر المجتمع بشكل محترف حتى فى زمن السوشيال ميديا..
ما إن صعد الجبل حتى وجد فى انتظاره صَفّين من رجال متجهمين، مسلحين، متنمّرين، يُسلطون بنادقَهم عليه، أصابعهم على الزناد، جاهزة لإطلاق النار، خطأ واحد منه يحوله إلى جثة غارقة فى الدماء.
قرأ فى سرّه كل ما يحفظ من آيات الذكر الحكيم وهو يمر بينهم، سقط قلبه بين خُفَّيْهِ، انكسرت عيناه، ارتعشت يداه، وجُفَّ حَلْقُه؛ بل إنه سرح لثوانٍ وتخيل رصاصة تخترق قلبَه، وتجهز عليه، وفى تلك اللحظة الوهمية أدرك مصير زوجته وابنته، جاريتان فى مغارة كبير الجبل، ولكن «ما رماه على المُر إلا الأمَر منه»؛ فقد خرج من قريته تحت ستار الليل متسللاً بعد أن كشف ستره، وتهددت حياته، ولم يعد له عيش أو فرش أو سجادة صلاة بين أهلها. لم يجد أمامه سوى الجبل يصعد إليه، الحَجَرُ رُغْمَ قسوته أرحم أحيانًا من البشر، لا تحاسب الكهوف والمغارات الخُطاة والعُصاة ولا تطالبهم بالتوبة، وتستوعب الفارّين بحُرّيتهم وعقائدهم وجرائمهم من مطاردات الأمن الذى يصعب عليه الوصول إليهم أو الإمساك بهم. هنا يتعايش خليط من الرجال فى سلام لم يجدوه فى الوادى، قتلة ومهربو سلاح وتجار مخدرات هاربون من أحكام صدرت عليهم، شباب من عائلات ثرية تركوا المدارس والجامعات لينجوا بحياتهم من ثأر فُرض عليهم، فاتورة سدادها دم، ملتحون متشددون ينتمون لتنظيمات دينية يُكفرون النظام والمجتمع ويجهزون أنفسهم للانقضاض عليه وتخليصه من حالة الجاهلية التى يتصورون أنه يعيش فيها.
لكن الأمن لا يُفَرّق بينهم، كلهم «مَطاريد»، هكذا يصنفهم جميعًا؛ بلا اختلاف أو تمييز، كلهم مجرمون يجب الإمساك بهم، والقصاص منهم.
لكن المثير للدهشة أن أول من صُنفوا «مطاريد» هم رُهبان فرّوا بحياتهم وعقيدتهم من بطش أباطرة الرومان الذين ألقوا بمعتنقى المسيحية أحياءً فى حَلبة أسُود جائعة وسط نشوة فى المُدرجات التى تمتلئ بمجانين الدم ونهش اللحم.
حفر الرهبان «قلايات» للتعبد فى منخفضات الجبال الممتدة على البَرّ الشرقى للصعيد من قِبَل بنى سويف إلى ما بَعد سوهاج، ولا تزال آثارُهم باقية حتى اليوم، يمكن لمَن يمشى على طريق الأسفلت أن يراها وإن غطاها الهباب بعد أن أحرقها متطرفون لا يؤمنون بحق الآخر فى العبادة.
كان إيمانُ الرُّهبان القدامَى أكبرَ من الجوع والعطش ومواجهة الحيوانات المفترسة، وبتلك الحياة الصعبة التى عاشوها فرضوا- فيما بعد- على كل من يريد أن يصبح راهبًا البقاءَ فى مغارة موحشة عدة سنوات ومن لا يحتمل تلك المشقة يعود إلى حياته الدنيوية التى جاء منها.
وكان عليهم اختيار أسماء غير أسمائهم لتضليل مطاريدهم، ولكن ذلك التصرف أصبح من تقاليد الرهبنة، مَن يدخلها يُمنَح اسمًا غير اسمه الدنيوى. إن وجيه صبحى سليمان أصبح تواضرس الثالث بعد رسمه راهبًا، ونظير جيد روفائيل أصبح شنودة الثالث، ويوسف عازر يوسف عطاالله هو نفسه كيرلس السادس.
ولم يغادر الرهبان تلك القلايات إلا بعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وأصدر فى عام 313 قانون ميلانو الذى سمح بحُرية العقيدة دون خوف.
لكن الجبل لم يحظ باهتمام غالبية الناس إلا بعد أن سيطر عليه محمد منصور أو الخُط الأصلى، فلقب «الخُط» أصبح لقبًا لكثير من المطاريد الكبار من بعده، ومثله مثل من سبقوه ومن لحقوا به؛ فإن النساء كن نقطة الضعف التى قضت عليه، وراء كل مجرم امرأة أيضًا.
وُلد «الحُظ» فى دَرنكة أسيوط، جده عُرف بسر الخاتمة، الأمين على القرآن، واشتهرت عائلته بالختمة، ومنها تحورت الكلمة لتصبح الخُط.
الغريب أيضًا أن الخُط كان له عينان زرقاوان وبَشرة بيضاء مشوبة بالحُمرة، رشيقًا، وسيمًا، حاد الذكاء، ولكنه كان أيضًا سريع الغضب، فكان العنف رد فعله الوحيد له، فلم يتردد فى قتل كل من تعرّض إليه، ونسب إليه قتل نحو خمسين مسجلاً رقمًا قياسيًا غير مسبوق. ما إن صعد الجبل حتى كوَّن عصابة من المطاريد سَلبت ونَهبت وقتلت وكسبت وخدمت الباشوات وحرست أراضيهم ودمرت خصومهم.
وشرب الخُط الخمر ودخّن الحشيش وأدمن الأفيون والنساء؛ خصوصًا راقصات أفراح الصعايدة، وآخرهن حليمة التى لم يقدر على مقاومة أنوثتها فاستدرجته إلى الوادى متناسيًا حرصه الذى اشتهر به، وهناك وجد كتيبة من البنادق موجهة إليه سرعان ما أجهزت عليه حسب تعليمات الأمن لتنتهى أسطورة عرفتها الجبال الممتدة من نحو أربعمائة كليومتر. وتبدو تلك الجبال من الخارج منفصلة ومستقلة، ولكن فى بطنها تواصلت واتصلت فى طرُق داخلية يمكن أن تسير فيها درّاجة نارية، مما ضاعف من فرص الهروب، فلو صعدت الشرطة من أسيوط تحرّك المطاريد إلى سوهاج أو المنيا، والعكس صحيح تمامًا، ولم يكن ليقبض على أحد إلا بوشاية تبلغ الأمن بموعد نزوله إلى «البندر» فى أمر مهم لا مَفر من تجاهله.
الخوف من الوُشاة جعل كبير الجبل يفحص الصاعدين الجُدد ويختبرهم بنفسه قبل أن يقبلهم بين رعاياه.
اختار الرجل لنفسه اسم «هَمّام الثالث» تيمنًا بشيخ قبيلة الهوارة هَمّام بن يوسف الذى واجه ظلم المماليك للفلاحين قبل مئات السنين حتى حمل لقب «أمير الصعيد».
سعى هَمّام الثالث جاهدًا للتمتع بصفات الرجل الذى اختار أن يحمل اسمه، توفير الحماية، تحقيق العدالة، وتوفير الرعاية، وامتلك فراسة مذهلة فى الحُكم على الرجال، وعندما مثل الشيخ «عبدالجليل» أمامه لم يرتح إليه، وإن قبل بوجوده لاحتياج «دولته» إلى شيخ حقيقى دارس فقه، حافظ كتاب الله، وقورًا، محافظًا، بَرّر خروجه من قريته التى وصفها بالظالم أهلها بأن عملاء عبدالناصر هناك وشوا به، وكشفوا عن علاقته السّرّيّة بجماعة الإخوان، ولكنه قرّر الهروبَ قبل القبض عليه.
وافق الكبير على قبوله على أن يهدى العصاة من رجاله إلى الصلاة، ويحكم بشرع الله فى الميراث والثأر والزنَى وانتهاك المَحارم وما بين المرء وزوجه، على أن يبتعد عن السياسة تمامًا حتى لا يُحدث فتنًا بين الرجال، وفى المقابل تُصرَف له ولعائلته طعامًا يكفيها، كما يوفر الأمن لها بشرط ألا تخرج زوجته وابنته من المغارة التى خصصت له.
وللإنصاف؛ فإن الشيخ نفّذ كل ما طلب منه ولم يقرب السياسة؛ بل إنه لم يتردد فى مديح عبدالناصر بعد أن وجد أغلبية يؤيدونه ولا يخفون إعجابهم به؛ خصوصًا أنه «بلدياتهم» من قرية بنى مُرّ التى تبعد كيلومترات قليلة عن مدينة أسيوط.
على أن المفاجأة أن من بين المطاريد من لا يسمع عنه، فقد صعدوا الجبل بعد أن قتلوا مأمور مركز البدارى وتوقعوا مصيرَهم بعد أن وجدوا ضباطا إنجليز فى جنازته بجانب أحمد حسين باشا رئيس ديوان الملك فاروق ومعلمه وكاتم أسراره.
صعدوا الجبل وانفصلوا عن العالم فلم يسمعوا عن الثورة التى أسقطت المَلكية ولا عن الصراعات التى احتدمت بين قادتها فكل همهم كان البقاء بعيدًا عن الأمن حتى تمضى مدة تكفى لإسقاط الأحكام عنهم.
لم يتردد الشيخ عبدالجليل فى رواية ما حدث فى مصر حتى صعد الجبل، ونجح فى التوفيق بين الرجال بفتاوَى وصفها بأنها من عند الله، ولكن قدرته على وصف خَلطة المنشطات التى تأتى من العطارين جعلت الرجال يشدون إليه أكثر، فقد كان لكثير منهم أكثر من زوجة، مُحققًا القاعدة المستقرة هناك، «كلما كبر الرجل صغرت زوجته»، حتى إن بعضهم وضع فى فراشه زوجة أصغر من أحفاده، وفى مجتمع يرى المرأة عورة يجب سترها بتزويجها لأول طالب تراه عائلتها مناسبًا.
لكن ابنة الشيخ تجاوزت السادسة عشرة ولم تتزوج، وكل من طلب يدها رفضته، والأب لا يقدر على إجبارها، فالشرع يفرض موافقتها.
ويمكن القول إنها كانت على حق؛ فقد أجبرت على الخروج من المَدرسة بعد أن نضج جسمها، وعندما وجدت نفسها فى الجبل راحت تعيد دراسة الكتب التى حملتها معها؛ بل إنها كانت تقرأ سرًا روايات حملتها معها تحت ملابسها، كتبها إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعى، ولكنَّ شيئًا ما فرض عليها الصمت، بدا ذلك مؤكدًا عندما سمح الكبير لها بالتجول خارج المَغارة، لم تكلم من يسعى للحديث معها؛ بل لم ترد التحية على أحد، واعتبر البعض ذلك السلوك تعاليًا ينم عن وقاحة، ولكن الغالبية اعتبرته تحفظًا ينم عن حشمة. ولكن ذلك الاختلاف لم يصمد طويلاً بعد أن أقسَم أحدُ الرجال بأغلظ يمين على أنه رآها عارية أكثر من مرّة فى الليالى التى يكتمل فيها القمر، ولكنه خشى البوح بوصف ما وقعت عليه عيناه- إلا لشخص واحد يثق فيه ويأتمنه على أسراره- حتى لا يفرض عليه حد رجم المحصنات.
على أنه لم ينسَ ما شاهد فى تلك الليلة، جسد مُهرة رشيقة، بلا لجام، غطته أشعة القمر فصار فى لون الحليب، يبرق مثل فضة مصقولة، ويزيح الليل عنه بحركات خفيفة من يديه، وكأنه خيط رفيع من الضوء المبهر يسرى بسرعة فى أوصال فيبدد ظلامه ويشتت عتمته ويفرّق سواده.
لكن السّرّ كان أكبر من طاقة الرجل الذى حمله فراح يهمس به إلى كل من يصادفه بعد أن يوصيه بحفظه وكتمانه؛ بل كان يقسم بكتاب الله على ذلك.
إن كتمان السّر أصعب من حَجَر ثقيل على الصدر حتى إنه قيل لو أردت لأخرس أن ينطق أمِّنه على سر.
ولم يكن من الصعب بالقطع أن يصل الخبر إلى الكبير، فقرر التحقق بنفسه مما سمع وأحضر الشاهد الذى أثار الفتنة وصرف الرجال عن مهامهم المكلفين بها.
الشاهدُ طالبٌ فى جامعة الإسكندرية، أبعد نقطة أتيحت لعائلته كى تحفظه من الثأر، تركته فى الجبل حتى تحميه من القتل، وقبيل امتحانات نهاية العام كانت تحمله سرًا وسط حراسة لتأديتها، ومن حُسن الحظ أنها كانت عائلة ثرية تقدر على تحمُّل كل هذه التكاليف.
- نعم يا كبير رأيت الفتاة عارية.
أقر الشاب بما ادّعى، ولكنه أضاف مستطردًا:
- إن الفتاة مريضة بجنون الاستعراض وتختار اكتمال القمر لتخلع ملابسها وهى تتأمل نفسَها، لقد درسنا حالتها فى الجامعة.
لم يستوعب الكبير ما سمع وقرّر طرد الشيخ وزوجته وابنته من الجبل دون تردد ولم يشفع له سجوده أمامه مُقبّلاً خُفّيْه مُغطيًا به دموعه.
- لا نقبل بالخطيئة هنا، الخطيئة تنسف بركة المكان.
عَلّق الكبيرُ حاسمًا الموقفَ وإن وافق على منح الشيخ مهلة من الزمن حتى يدبر جبلاً آخر يهرب إليه ويمكن أن يقبل به بعد ما أشيع عنه.
لكن القدر كان فى صف الشيخ، فقد اشتعلت الحرب بين مصر وإسرائيل، وراح المطاريد يتابعونها من الجرائد التى يرسلون واحدًا منهم لشرائها كل يوم، وتمنّى أغلبهم أن يشارك فيها، ولكن لم تمر سوى أسابيع قليلة حتى عرفوا بنبأ الهزيمة؛ بل يمكن القول إنهم أول من عرفوا بها، وإن حدث ذلك بطريقة غير متوقعة.
فجأة رخصت الأسلحة حتى تدنت أسعارها إلى درجة لم يسبق لها مثيل، حتى إن ثمَن البندقية الآلية أصبح عشرة جنيهات بعد أن كان لا يقل عن مائة جنيه؛ بل توافرت أسلحة ثقيلة، حملتها مَراكب رَسَت بالقرب من البدارى، ولم يكن من الصعب معرفة أن تلك الأسلحة هى التى تركها الجيش المصرى فى سيناء، والجيش لا يترك أسلحته إلا فى حالة واحدة؛ أنه ينسحب مهزومًا.
راجت تجارة السلاح وتكالب الفقراء قبل الأغنياء على تكديسها وتباهوا بما جمعوا. إن فى كل بيت سلاحًا جاهزًا لتسليمه للحكومة فى الحملات التى تشنها، ولا داعى للمواجهة والمقاومة والبهدلة، ولكن هناك أكثر من سلاح للاستعمال والاطمئنان وتأكيد الشخصية، السلاح هنا هوية.
وهناك وظيفة أخرى للسلاح، مجاملة الضيوف الذين يحلون على القرى؛ حيث يُخرج كل رجل بندقيته ويُطلق فى الهواء خزانة من الرصاص، ويكلف ذلك الحفل الكثير من المال، يحتاجه الفقراء لإطعام أسرهم، ولكنهم لا يجرأون على التخاذل، فعدم المشاركة عار لا أحد يحتمله. نشط المطاريد من تجار السلاح وكسبوا مالاً لم يحلموا به، جعل أشهرهم وأغناهم يطلق على نفسه اسم هَمّام الرابع، فى إشارة منه إلى قلب نظام الحُكم فى دولة صديقه وأقرب الناس إليه هَمّام الثالث.
فى منتصف الليل هجم رجال هَمّام الرابع على فراش هَمّام الثالث وذبحوه هو وحراسته وحملوا ما وجدوا من مال وسلاح ونساء إلى مغارة الكبير الجديد.
إن الثروة المصحوبة بالقوة تغرى بالسُّلطة، والسُّلطة متعة ليس لها مثيل، أن تحكم وتتحكم، أن تأمر فتطاع، أن تهذى فتوصف بالحكمة، أن تخطئ دون خوف من عقاب، فأنت السيد وأنت القانون.
لكن السُّلطة مع الجهل كارثة تلحق بمن يحترق بنارها حتى صاحبها.
كان أول ما فعل هَمّام الرابع بعد أن دانت له دولة المطاريد تقريب الشيخ إليه ليصبح مستشاره ووزيره الأول.
كانت عينا هَمّام الجديد على ابنة الشيخ الذى عَرف لأول مرة أن اسمها «فريال»، فكان يتحين الفرصة لزيارته فى مغارته ليلاً وهو ثمُل تمامًا يكاد لا يرى أمامه من الحشيش الذى دخنه بإفراط وجُرعة الأفيون التى حرضت جسده على الشهوة.
ولم يكن من الصعب أن تدرك فريال ما يتمناه الرجل، غريزة الأنثى لا تكذب، لكن الغريب أنها شجعته على الاقتراب منها بنظراتها الحارقة وثيابها الكاشفة، فجأة أصبحت جريئة إلى حد الوقاحة، فلم يحتمل الكبير الذى كان تحت الثلاثين، فأمسَك بها وضمّها إليه فحرّكت جسدها لتزيده اشتعالاً.
بهت الشيخ، وتجمدت الأم، ولكنهما لم يتقدما لحماية ابنتهما؛ لتزداد العجائب بما ضاعف من صدمات كل من حضر المَشهد وكان بعضًا منه.
استدارت فريال لتقبّل هَمّام قُبلة أصابته بالدَّوَّار، ولكن ما إن سعى للمزيد حتى ابتعدت عنه.
- أنت لى لو قتلت ذلك الرجل.
قالت جملتها غير المتوقعة وهى تشير إلى أبيها.
ولم يُكذّب هَمّام أمرًا واستدار ببندقيته ليطلق منها رصاصة فى الرأس نسفت مُخ الشيخ وسقط قتيلاً.
لم تصرخ الأم ولم تغضب ولم تتحرك من مكانها، ولكن فريال مشت إليها واحتضنتها ثم أمسكت برأسها وقبّلته، هنا ربتت عليها الأم، وانسابت دموعها من عينيها.
جحظت عينا هَمّام وفقد قدرته على الفهم، وأحَسّ بقوة فريال وخاف منها، المجرم ميت القلب خاف منها، ما كل هذه القوة؟! ما كل هذا التماسُك؟ والأم؟ إنها بدت وكأنها تبارك ما فعلت.
عندما تماسك سألها:
- لِمَ قتلت أباك؟
قالت: انتقمت لشرفى!
ذات ليلة عاد الأب إلى بيته فى القرية التى يسكنونها وقد أعمته المخدرات ووجد ابنته نائمة فى الصالة بسبب شدة الحَر وقد انكشف جسدُها بعد أن انحسر الثوب واستقر بعد رقبتها بقليل وكان ما كان.
لكن ما حدث تكرّر حتى شهدت الأم لحظات الحرام بينهما وفقدت قدرتها على النطق وحاولت حماية ابنتها الضعيفة الهشة العاجزة عن المقاومة، لكن الشيخ هدّدها بالقتل إذا اقتربت منهما.
وواجَه الشيخ موقفًا صعبًا، كل يوم يطرق بابَه من يريد الزواج من ابنته، البنت كبرت، وفارت، وجن بها الشباب من كبار وصغار العائلات، وقرر الشيخ ترك القرية، ولكن كل قرية أخرى سيبقى فيها سيواجه المشكلة نفسها، فلم يكن أمامه سوى الصعود إلى الجبل مخترعًا قصة أنه ينتمى إلى جماعة الإخوان والأمن يريد رقبته.
إنه ليس أول شخص فى عائلته يفكر فى الجبل؛ بل ربما هو الخامس، أو العاشر، الجبل ملاذ للخُطاة والعُصاة، ومغاراته تسع الجميع، دولة اختار مواطنوها القوانين بأنفسهم، فلم يتجاوزوها، ووضعوا قواعد توزيع العمل فيما بينهم، الأشداء يقاتلون ويحصلون على الإتاوات والغنائم والضعفاء يقومون بالخدمات المطلوبة منهم.
ولحظة أن صعد الجبل لم يتخيل الشيخ أنه سيلقى ذلك المَصير ويفضح أمره وتترك جثته بلا قبر يسترها لتنهشها الطيور الجارحة تاركة ملابسه الأزهرية الملوثة بالدماء فارغة منه.
وما إن أفاق القاتل من الدهشة التى غرق فيها حتى حاول مجددًا مع فريال، ولكنها أمسكت البندقية وهددته بالقتل إذا ما اقترب منها، فإذا به يركع أمامها قائلاً:
- أنا أحبك وسأتزوجك.
- نتزوج ثم نتكلم.
- ليكن هناك شهود مستعدون لتنفيذ ما نطلب منهم.
- ولن أقضى ليلتى الأولى هنا وسط الذئاب التى حولنا.
ووافق على أن ينزلا من الجبل إلى أسيوط بصحبة أمّها وحراسة رجل واحد حتى لا يلفت الأنظار، على أن تعود معه إلى الجبل حتى آخر العمر.
ونفذ هَمّام ما طلبت.
فى لوكاندة أمام محطة القطار فى مدينة أسيوط وفت بوعدها ومنحته من المتعة ما لم يتصوره، ولكنها تسللت من جواره وغسلت جسدها بالمياه وخرجت من الحمَّام لتمد يدها إلى ثيابه وتمسك بمسدسه وظلت جالسة بجواره ساكنة بلا حركة تقريبًا.
وما إن انطلق أذان الفجر حتى أطلقت الرصاصَ عليه ولم تهتز لنظرة الدهشة فى عينيه. استيقظ حارسه النائم أمام باب الغرفة واستيقظ معه نزلاء وعُمّال اللوكاندة على صوت الرصاص ولحق بهم شرطى كان قريبًا من المكان.
فى محضر الشرطة اعترفت بالجريمة:
- نعم قتلته انتقامًا لوالدى!
- لكنك تزوّجتيه؟!
- لم يكن لى طريق آخر للنجاة.
واهتمت الصحف بالحادث وتعاطفت مع فريال وأثنت على شجاعتها واعتبرتها بطلة قومية خلصت الصعيد من أخطر مجرميه.
ولم يتردد المحامى الشهير أحمد سماحة فى الدفاع عنها بلا مقابل مستغلاً تعاطف الرأى العام معها وانحياز الشرطة إليها.
وجاء يوم النطق بالحُكم.
حكمت المحكمة حضوريًا ببراءة المتهمة فريال عبدالجليل مؤمن عواد من تهمة القتل العَمد، فقد اعتبرتها فى حالة دفاع عن النفس وقت ارتكاب الجريمة.
بعد عَشْر سنوات قدّم لى أحمد سماحة ملف القضية، ولكنه استدرك قائلاً:
- سأروى لك ما لن تقرأه فى الملف.
وراح يحكى. 
3030
3032
3033
3034


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.