ازدهرت صناعةالسياحة الجنسية خلال السنوات ال20 الأخيرة بشكل لافت، مع تعدُّد الوجهات والمناطق التى روجت لها، حتى أصبحت جزءًا أصيلًا من حركة السياحة العالمية. وبخلاف كل الأزمات العالمية التى كانت بمثابة الفرص لرواج ذلك النوع من السياحة؛ جاءت جائحة كورونا، لتكسر هذه القاعدة؛ إذ وجّه الفيروس ضربة قويّة للسياحة الجنسية حول العالم.. وفى السطور التالية نرصد أهم تأثيرات الوباء على تجارة الجنس، خاصة فى ظل توقعات بأن الموجة الثانية من الفيروس بإمكانها القضاء على تلك الصناعة بالكامل.
الحى الأحمر
توقُّف حركة السياحة حول العالم، بسبب إجراءات منع السفر وغلق الحدود وحظر التجوال، أدى تلقائيًا إلى توقُّف نشاط تجارة الجنس، لكن يبدو أن الأمر لا يقف عند التوقف المؤقت الذى فرضته ظروف الجائحة العالمية، وخاصة أن الكثير من الحكومات اعتبرتها فرصة لمكافحة هذه الأنشطة.
أعلنت الحكومة الهولندية مؤخرًا عن دراسة لتغيير النمط الاقتصادى فى الحى الأحمر بالعاصمة أمستردام؛ بحيث يكون مكانًا يستطيع أن يعيش فيه المواطنون بشكل طبيعى. فمع تفشى جائحة فيروس كورونا فى هولندا خلال شهرى مارس وأبريل الماضيين تحول وسط العاصمة أمستردام البالغ عمرها 15 عامًا إلى مدينة أشباح، بعد اختفاء بائعات الهوى اللاتى كن يقفن خلف نوافذ زجاجية بملابس شبه عارية فى أزقة صغيرة مثل «ستوفستيج»، لجذب آلاف السائحين ممن جاءوا لهذا الغرض.
كما خلت المقاهى فى الميادين التاريخية مثل «ريمبراندت بلين» و«ليدس بلين» من الزوار الذين كانوا يتدفقون على المدينة لتعاطى مخدر الحشيش المسموح بتداوله قانونًا فى هولندا.
ومع غياب السائحين الأجانب الذين كان يزيد عددهم على مليون سائح شهريًا بما يتجاوز عدد سكان المدينة، نتيجة تفشى الوباء، ظهرت حقيقة مهمة وهى أن سكان أمستردام المحليين قد فقدوا مركز مدينتهم التاريخى،بعد غياب الكثير من أهل المدينة خلال السنوات الماضية.
وقالت «ماشا تن بروجينسكيت»، رئيس مجلس الحى المركزى فى مدينة أمستردام: «إن الجائحة أظهرت بشكل مؤلم حقيقة أن عددًا قليلًا جدًا من الناس يعيشون فى وسط المدينة وأظهرت مدى قلة ما يوفره وسط المدينة لسكانها المحليين، وعلينا تغيير هذا الوضع».
فى السياق نفسه، تدرس العديد من المدن والدول فى مختلف أنحاء العالم ما يجب عليها من تغييرات فى عصر ما بعد كوفيد19، فإن الأمر يصبح أكثر أهمية بالنسبة لأمستردام التى تستقبل نحو 19 مليون سائح سنويًا يحققون لها دخلًا يبلغ 6 مليارات يورو (6.8مليار دولار).. ما يدفعها للبحث عن التوازن بين جذب السائحين والمحافظة على السكان المحليين فى وسط المدينة.
وفى نهاية مايو الماضى، كشفت «فيمكه هالسيما»، عمدة أمستردام، عن خطة لتحقيق هذا الهدف، وأشارت فى خطابها الموجه إلى المجلس المحلى لوسط المدينة، إلى ضرورة الحد من التراخيص حتى لا يتحول وسط المدينة إلى مجرد مجموعة من المحال التى تبيع التذكارات والحشيش والحلوى، وتحويلها لشركات يمكن لأهل المدينة العمل فيها ومساكن يعيشون فيها ومتاجر بقالة ومنافذ يجدون فيها احتياجاتهم اليومية.
وقالت «هالسيما»: «هذه ليست أول مرة تحاول فيها حكومة العاصمة توفير فرصة حياة حقيقية لأهلها فى وسط المدينة، لكن أزمة كورونا أكدت على ضرورة التفكير فى مستقبل وسط المدينة التى تعتمد بالكامل على السياحة الجنسية وهو أمر يجب تغييره».
فى المقابل، فإن الكثير من بائعات الهوى فى أمستردام رفضن الخطط المقترحة من قبل رئيسة البلدية، موضحات أن من شأن تلك الخطط القضاء على عملهن نهائيًا والقضاء على منطقة «الضوء الأحمر» بالكامل، وهو حى الدعارة الأشهر فى العالم.
مدينة الخطيئة
تعد تايلاند قبلة للسياحة الجنسية والدعارة بسبب الأسعارالمتدنية فيها، حتى إن مدينة «باتايا» جنوب العاصمة بانكوك يطلق عليها «مدينة الخطيئة» أو«عاصمة الجنس فى العالم».. وعلى طريقة أمستردام استغلت السلطات التايلندية فرصة توقُّف السياحة بعد انتشار الفيروس لتنفيذ خططها فى الحد من انتشار أنشطة الدعارة والسياحة الجنسية.
ورغم أن الدعارة مجرمة قانونيًا فى تايلند؛ يوجد ما لايقل عن 300 ألف شخص يعملون فى سوق الجنس، جميعهم توقفوا عن ممارسة ما دأبوا عليه منذ سنوات بسبب فيروس كورونا، ومع الوقت أصبح هذا النشاط مقبولًا لما يدرّه من أرباح وعائدات على الدولة والأفراد.
تأتى الفلبين فى المرتبة الثانية بعد تايلاند ضمن مدن تجارة الجنس زهيدة الأسعار، وأصبح كورونا فرصة لا تعوض للرئيس الفلبينى «رودريغو دوتيرتى» لتنفيذ أجندته الخاصة بمحاربة تجارة المخدرات ومنع الفلبينات من السفر للعمل كخادمات فى الخارج، فضلا عن توقُّف نشاط السياحة الجنسية الذى كان يزور البلاد من أجله نحو 1.2 مليون سائح من إجمالى عدد سياح يصل إلى 6 ملايين سائح سنويا.
الشهرة الكبيرة لتايلاندوالفلبين فى مجال السياحة الجنسية لم تمنع ماليزيا من حجز نصيبها من كعكة تجارة الجنس العالمية خلال السنوات الأخيرة، فبحسب تقرير لصحيفة «دى فيلت» الألمانية أشارت فيه إلى ازدهار السياحة الجنسية فى ماليزيا خلال السنوات الماضية، لتتجاوز بذلك تايلاندوالفلبين وتصبح الوجهة العالمية الأولى لسياحة الجنس الرخيص.. خاصة بعد انتشار صالونات التدليك (المساج) المصحوب بالجنس فى «بوكيت بينتانج» أحد أكبر شوارع العاصمة كوالالمبور.
لم يمنع تجريم الدعارة قانونًا فى ماليزيا من ازدهار تجارة الجنس فى السنوات الماضية، لتبلغ قيمة عائدتها نحو 854 مليون يورو حسب موقع «هوفاسكوب جلوبال بلاك ماركت إنفورميشن» المتخصص فى بحوث الأسواق السوداء حول العالم.
وتشير صحيفة «دى فيلت» إلى أن بيوت الدعارة الصغيرة والنزل المؤقتة وصالونات التدليك المصحوبة بالجنس باتت منتشرة فى البلاد بصفة ملحوظة، وتشير الإحصاءات، بحسب الصحيفة، إلى وجود 52 بائعة هوى لكل عشرة آلاف نسمة فى ماليزيا، بينما تبلغ النسبة فى تايلاندا 45 فقط لكل عشرة آلاف نسمة، وفى ألمانيا 49 بائعة هوى لكل عشرة آلاف نسمة، لكن الحكومة الماليزية الجديدة برئاسة محيى الدين ياسين، استغلت الإغلاق العالمى بسبب الوباء لمكافحة هذا النشاط.
عائدات ضخمة
وبالعودة إلى عواصم تجارة الجنس الغنية فى الغرب، فمن المعروف أن معظم الدول الغربية تبيح السياحة الجنسية عبر قوانين تُعرف بقوانين حماية الدعارة، لذلك فإن كثيرًا من تلك الدول تجنى أموالًا ضخمة من هذه التجارة، عبر فرض الضرائب والرسوم عليها.
وتربعت إسبانيا على عرش سياحة البغاء فى أوروبا خلال الفترة الأخيرة، خاصة بعد اتجاه بعض الدول الأوروبية لتجريم هذا النشاط خلال السنوات الأخيرة.
وتعد قرية «لا جونكيرا» فى شمال إسبانيا، نموذجًا على انتعاش هذه التجارة خلال السنوات الأخيرة؛ حيث تحولت إلى مركز دعارة بمعنى الكلمة فى غضون بضع سنوات، خاصة بعد تجريم فرنسا لهذا النشاط فى عام 2016.
القرية التى كانت محطة استراحة للشاحنات التجارية داخل القارة الأوروبية، بسبب موقعها على الحدود الفرنسية، أصبحت تحتوى اليوم على الكثير من بيوت الدعارة منها أكبر بيت فى أوروبا والذى يسمى paradise club وشارع مكتظ بالغانيات، وهو الأمر الذى أصبح يؤرق سكان المدينة.
فمنذ تشديد فرنسا الرقابة على الدعارة على حدودها عام 2016، أصبحت «لا جونكيرا» فى كاتالونيا مركز ممارسة الجنس بالنسبة لفرنسا، وهو الأمر الذى أدى إلى زيادة كبيرة فى عدد بائعات الهوى القادمات من بلدان أوروبا الشرقية خاصة رومانيا.
ولم يكن الجنس وحده هو السلعة المطلوبة فى هذه البلدة الحدودية الصغيرة؛ إذ كان يأتى إليها 7 ملايين زائر سنويًا، منهم مسافرون وسياح، ما جعلها قبلة للباحثين عن الأسعار الرخيصة للكحوليات والسجائر أيضًا.. وتقول عمدة البلدية «سونيا مارتينز»: « إن ذلك يعد مشكلة للبلد برمتها.. فأول ما يشاهده القادمون من فرنسا هو مشهد بائعات الهوى شبه العاريات اللائى يقفن على جانبى الطريق لعرض أجسادهن لجذب الزبائن».
وأضافت «مارتينز»: «قبل كورونا، كنا نكافح ذلك السلوك بهدف القضاء عليه، وذلك بالرغم من تراخى الحكومات الإسبانية فى سن قوانين تكافح هذه التجارة التى تعد إهانة للمرأة.. ورغم الصعوبات التى خلفها فيروس كورونا؛ فإنه ساهم فى اختفاء هذا النشاط إلى حد كبير بهذه القرية خاصة بعد غلق الحدود بين البلدان الأوروبية».
وتعتبر إسبانيا ثانى أكبر وجهة سياحية فى العالم بعد فرنسا، إذ كانت تستقبل أكثر من 82 مليون زائر سنويا، بإيرادات تبلغ نحو 77 ملياردولار، تشكل السياحة الجنسية جزءًا كبيرًا منها. مكافحة الدعارة
فى العام 2002 صدر قانون ينظم ممارسة الدعارة داخل ألمانيا، لكن هذا القانون تراه كثير من منظمات حماية حقوق المرأة لم يوفر حماية أفضل للنساء والفتيات من الاستغلال.. وترى منظمات المجتمع المدنى أن قانون الدعارة الذى صدر فى عام 2002، لم يعزز حقوق بائعات الهوى.
دفعت تلك المطالبات الحكومة الألمانية لسن قانون لتنظيم الخدمات الجنسية فى العام 2017، يهدُف إلى حماية النساء من العنف والإكراه، وبموجبه أصبحت بيوت الدعارة تحتاج إلى تصريح للعمل، كما ينبغى على العاملات فى ذلك المجال تسجيل الحصول على شهادة للعمل.
وفى السنة الأولى بعد بدء العمل بالقانون، لم يتم تسجيل سوى نحو سبعة آلاف امرأة، من عدد الغانيات البالغ عددهن قرابة المليون ومئتي ألف فى ألمانيا، ولا يزال قانون الدعارة فى ألمانيا، واحدًا من أكثر قوانين الدعارة ليبرالية، حتى إن البعض يعتبر ألمانيا «ماخور أوروبا» وذلك لأن ما بين 80 و90 %من بائعات الهوى يأتين من الخارج، وقد وصل العديد منهن ألمانيا عبر التهريب فى ظروف قسرية وغير إنسانية.
وترى الحكومة الألمانية أن حظر شراء الجنس قد يكون أمرًا خاطئًا، لأن الخطر يكمن فى «تعرض بائعات الجنس للاستغلال بطرق غير قانونية ووقوع مخاطر هذه المهنة على عاتقهن من دون حماية»..وتحصل ألمانيا على نحو 9 مليارات دولار سنويا كإيرادات تأتى من خلال التراخيص التى تمنحها بيوت الدعارة لخزينة الدولة.
أرض الأحلام
على الشاطئ الآخر من المحيط الأطلسى، فقد أدى الانتشار الواسع لفيروس كورونا فى الولاياتالمتحدة، لتأثر تجارة الجنس بشكل كبير؛ إذ أدى إلى توقف نحو مليون عامل فى مجال الجنس بجميع أشكاله عن العمل.
وتحارب حكومة الرئيس دونالد ترامب تجارة الجنس، وهو ما دعاها إلى حظر القروض والمعونات عن الشركات الصغيرة التى تضررت جراء الجائحة والباحثة عن قروض طارئة وفقا للقواعد الحكومية، والتى تبيع «منتجات أو خدمات ذات طبيعة جنسية».
وفى صحيفة «هافينغتون بوست» كتبت «مولى سيمون»، إحدى بائعات الهوى فى نيويورك، «إن عدم رغبة حكومتنا فى الاعتراف بالعمل الجنسى كمجال لا يحمل طابعًا إجراميًا يعنى أن العديد من العمال سيدفعون بسرعة إلى حالة من اليأس المالى»، كما حذرت من أن هذا الوضع قد يجبر العاملين فى مجال الجنس على «قبول زبائن يعرفون أنهم غير آمنين ويخاطرون بالتعرض للإساءة أو الاغتصاب لأنهم يحتاجون إلى إطعام أنفسهم أو أطفالهم أو دفع الفواتير».
فى النهاية، يمكننا القول أن كورونا خلق فرصة ذهبية للحكومات للتخلص والحد من السياحة الجنسية، وساعدت حالة الإغلاق العالمى الحكومات فى فرض وتنفيذ خططها، فيما دفعت العاملين بهذا المجال للبحث عن مجالات عمل أخرى.