ليست الأزمات كلها شرورًا، ولكن قد يكمن فيها الخيرُ أحيانًا. الخيرُ الذى أقصده هنا هو ما كشفت عنه الجائحة الحالية التى تُحير العالم كله: إن طريقة تفكير المفكرين العرب والموضوعات التى يفكرون فيها ذات الصلة بالجائحة أظهرت ما أراه عيوبًا تعوق صاحبها أن يضطلع بمهمته فى تحمُّل مسئولية تنوير مجتمعه وقيادة أبناء وطنه نحو التقدم. بعض المثقفين تفتقت قريحتهم على إظهار- وهو ما عدُّوه أولوية يجب الكشف عنها- كيف أن هذه الجائحة فضحت الغرب المغرور وأظهرت عيوب نظامه الصحى، بل ونظامه السياسى بأسْره، كما أظهرت خَلل النظام العالمى والحضارة الأوروبية وبالتالى راحت تبشر بأن انهيار مركزية الغرب والحضارة الغربية قد أوشك على الحدوث. هذا الحديث من جانب المثقفين العرب يُظهر على الأقل سلبيتين: الأولى أن الشواهد التى يمكن الاستناد إليها للخروج بنتيجة كهذه ليست متوافرة بشكل كافٍ لدى الكُتّاب الذين انتهوا إلى هذه النتيجة، وهو ما يعنى غياب فهم منهج التفكير العلمى لديهم، الذى يتطلب- من أجل الخروج بحُكم مُعَين- أن يكون عدد الشواهد وتنوُّعها بالقدر الذى يمكن معه الانتهاء إلى نتيجة سليمة. الأمر الآخر- حتى أكون حَسن النية- أنهم ربما نسوا أو تناسوا أن البحث فى سُبُل التقدم- وهو ما أظن أنها مهمتهم الأساسية- لا يبدأ إلّا من نقد الذات، وليس نقد الآخر. بالقدر الذى نهتم بنقد الذات وننشغل بهذه المهمة، بالقدر الذى تكون بدايتنا صحيحة. من الأفضل أن ننعكس على ذواتنا بحثًا عن عيوبنا لمحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه. كنت أتمنى أن ينشغلوا بالتساؤل: ما الذى أظهرته هذه الأزمة من عيوب لدينا يمكننا تفاديها، وليس الاهتمام بمثالب أو مصائر الآخرين، أن ينشغلوا بمناقشة ومحاولة التوصل للإجراءات الواجب اتخاذها لتفادى هذه العيوب مستقبلًا متى ظهرت لدينا. من هنا رحت أتساءل: كيف يتأتى لإهمال الذات لذاتها على هذا النحو أن تصل لأى علاج أو تساعد فى إحداث تطور أو تقدم؟
فيما يتعلق بسبب حدوث هذه الجائحة، انقسم المفكرون إلى من يرى أنها مؤامرة وأن الفيروس مُصنَّع، والبعض رآها ظاهرة طبيعية. هذا الانقسام يُظهر أيضًا غياب التفكير العلمى لدينا لعدم توافر الأدلة فيما نذهب، كما يكشف عن تسلل، ولا أقول الارتكان للتفكير الغيبى الميتافيزيقى. إننا إذا شغلنا أنفسنا فقط بعلاج هذا الأمر، أى بمحاولة فض الاشتباك بين عقليتَى التفكير العلمى والتفكير الغيبى وتحديد موضوعات ومبررات عمل كل منهما- على افتراض عدم الاستغناء عن كليهما-، لوضعنا أنفسنا على البداية الصحيحة للتقدم. وهذه مهمة لا أراها سهلة أو من الممكن الانتهاء منها فى وقت قصير.
أمرٌ آخر، نفترض أن نبوءة - ولن أقول التفسير العلمى الذى انتهى إليه المفكرون- العرب قد تحققت بانهيار الغرب وتفسخ نظامه، ما دلالة هذا بالنسبة لنا؟ لن يعنى هذا- مع الأسف- سوى أن السيطرة على العالم ستنتقل لقوة أخرى. لقوة توظفنا وفقًا لمصالحها. ندور فى فلكها؛ لأن ظروفنا الحالية لا تمكننا من الاستقلال بأنفسنا. أليس الأفضل- فى ظل هذه الظروف- أن نفكر لأنفسنا؟ أن نحلل عيوبنا التى أظهرتها الجائحة؟ أن نفكر فى خطواتنا المستقبلية؟ كيف نتطور؟ ماذا نفعل؟ مشاكلنا وعيوبنا من الكثرة بحيث تحتاج لجهد مثقفينا ومفكرينا أكثر من اهتمامهم بانهيار أو عدم انهيار الغرب. يمكننا أن نفكر فى انهيار الغرب فقط للمدى الذى سيؤثر به هذا الانهيار على خططنا ومستقبلنا، وليس فى انهيار الغرب فى ذاته. لم يسأل مفكر نفسه كيف أعددنا أنفسنا وماذا أعددنا لمرحلة ما بعد «كورونا». وإن كان هناك من سأل؛ فهو السؤال الأجدر بالاهتمام.