أصيب العالم تحديدًا فى آخر يوم من أيام العام الماضى، بفيروس ما زال يُحَير العقل البشرى لأشهر ثلاثة متتالية، وها هى أيام قد انقضت من شهره الرابع والحيرة مستمرة- وإن لم تزد- وتحدى منتجاته وتقنياته العلمية ترهق التفكير وإن لم تكد تصيبه بالشلل، حتى تعالت الأصوات رفضًا ولعنًا للأنظمة العالمية والدول الكبرى وامتدت السخرية لتطال العلم والعقلانية، وهذه الأخيرة هى ما دعتنى للكتابة.
لا يمكن لحادثة واحدة - والمقصود هنا وباء مرض الكورونا - مهما بلغ تضخمها وحجم تبعاتها أن تمكننا من الحكم على نجاح أو فشل تراكم علمى تكوّن عبر قرون من الزمان وهى (العقلانية العلمية). أضف إلى هذا أن النسق العلمى نسق لم يدّع القدسية ولم يعد أحدًا بالأمان الأبدى وأنه الجنة على الأرض. أى مبتدئ فى ميدان العلم يعرف أن احتمالية قوانينه مقولة أساسية يفترضها العلم السائد ويؤسس عليها سائر ادعاءاته ومزاعمه. أما النسق العلمى فى كليته فما هو سوى محاولة تقريبية لفهم الكون، ولم يزعم أدعياؤه أن لديهم مفتاحًا سحريًا يضمنون به فهم كل مكونات الكون أو حل كل مشكلات وألغاز الكون الحالية واللاحقة.
أما ضرورة توجيه الأخلاق للعلم وسبل استخدام منتجاته فلا يجب المناداة بها وكأنها دين جديد يجب الدعوة إليه، فلقد توازى الوعى بضرورة توجيه الأخلاق للعلم وللسياسة مع إنتاج العلم نفسه. إذ لما لم يكن يعرف خطورة المنتَج مثل المنتِج، كان من الطبيعى أن تنطلق دعاوى أخلاقيات العلم - وضرورة توجيهها للعلم - من العلماء أنفسهم حتى اضطرت الجامعات فى العقود الأخيرة من القرن الماضى إلى عمل تخصصات منفصلة لأخلاقيات كل علم فى الجامعات والمراكز البحثية المختلفة، أى للمشكلات الناجمة عن منتجات كل علم وكل مهنة. أعقبها دعاويهم المستمرة للساسة بضرورة استناد القرارات السياسية على صحيح العلم وأن تلهمها الأخلاق، جاء آخرها من أقل من أسبوع مضى من الهيئة الدولية لأخلاقيات العلم باليونسكو بالاشتراك مع المفوضية العالمية لأخلاقيات العلم والتكنولوجيا (المعروفة بالكومست). (IBC& COMEST 26 March 2020). ولكن لأن العلماء ومتخصصى الأخلاقيات لا يملكون إلزامًا للساسة - خاصة على مستوى العلاقات الدولية - ولا سلطة عليهم سوى مناشدتهم المستمرة تحكيم وإعلاء صوت العقل، فلا يستمع لهم غالبًا سوى المتضررين. لماذا يستمع المتفوق وهو فى مركز القوة؟ لماذا ينادى المنتصر بقيم التسامح ويقبل رأى الآخر؟ لماذا يقبل منتج الحضارة الحديثة أن يهديها لك- وأنت قابع فى بيتك- بدعوى المساواة؟ لماذا يستمع لك استماع الند للند وأنت لست ندًا له؟ لماذا يهديك نتاج تراكمه المعرفى إذا ما اكتشف منتجًا معرفيًا وأنت قابع فى بيتك، تتدثر بالغطاء وتشاهد التلفاز؟ هل هذا هو العدل؟ ومع هذا انتهى العلماء ومتخصصو الأخلاقيات إلى إقناع المخترع المنتصر ضرورة إفادة سائر المحتاجين – لأنهم أخوته فى الإنسانية - من اختراعه. تسود البيئة العلمية الآن قيمة «تشاطر المنافع» وهى تعنى ضرورة استفادة كل محتاج من كل منتج علمى، طبى، أو غيره. وإن كان العدل يفترض أن تتدرج الاستفادة.
أما الرأسمالية التى يرى البعض أن فيروس كورونا قد أظهر توحشها، فدعنى أذكرهم أن الرأسمالية قد توحشت قبل كورونا. لم تكن الرأسمالية تنتظر كورونا حتى تعلن عن وجهها القبيح. لذلك- وهو ما يدهشنى أن بعض المثقفين لا يعلمونه- فهى لا تطبق فى أى بلد من بلدان العالم على النحو التى تم تنظيرها به. كذلك، لم تنتظر العولمة فيروس كورونا حتى تكشف عن عيوبها.
لقد انسحبت الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ أشهر قليلة من اتفاقية باريس للمناخ رغم أنها واحدة من أكثر الدول المتسببة فى انبعاث غازات الاحتباس الحراري. هذا إضرار واضح بالآخر. وإذا كان هذا أحد أمثلة إضرار القوى بالضعيف، فعلى العالم أن يقف ضد هذا الإضرار. ولكن عليك أن تعمل بالتوازي على البحث عن عناصر اكتساب القوة حتى تتمكن – وقت الضرورة- من فرض العدل، أو على الأقل حماية الذات.
لا تصبوا جام غضبكم على العلم والعقلانية، فلن تقوى الأمم ولا البشرية جمعاء إلا بالعلم والعقلانية، ولن ينقذنا من الوباء الحالى سوى العلم: منهجه ومنتجاته، ودعاء المؤمنين أن يلهمنا الله الأخذ بالأسباب. ومن لديه البديل، فليتقدم به.