لدى زيارة أى مسئول أجنبى إلى مصر عادةً ما كنا نوجهه إلى «الماضى» من خلال جولة فى أحد معالمنا التاريخية، أما فى زيارة «ألكسندر لوكاشينكو» رئيس جمهورية روسيا البيضاء الأخيرة فقد جعلنا قبلته صوب العاصمة الجديدة «المستقبل»، وهى مفارقة وإن كانت غير متعمدة لكنها تعكس حجم ونوع التحول الذى تشهده مصر خلال السنوات الأخيرة، والذى اتضحت بعض ملامحه خلال الزيارة التى اختتمت فعالياتها نهاية الأسبوع الماضى. من بين محاور جدول أعمال الزيارة التى استغرقت يومين كان الحدث الأبرز هو تفقد الرئيسين لمعرض طائرات دون طيار بيلاروسية الصنع، قال فلاديمير جوساكوف رئيس هيئة الأكاديمية الوطنية للعلوم فى بيلاروس إن «مينسك» و«القاهرة» وقعتا عقدًا لإنتاج مشترك لها، وسيتم إنتاج 4 أنواع منها مختلفة الاستخدامات فى القاهرة، مرجحًا بدء الإنتاج العام الجارى.
الطائرات الموجهة ليست الشىء الوحيد الذى اتفق الجانبان على تصنيعه، فخلال اجتماع مجلس الأعمال المشترك بالعاصمة الجديدة، الذى حضره ممثلون عن 37 شركة بيلاروسية تم عرض 20 معدة سيتم إنتاجها فى مصر بشكل مشترك، منها: الجرارات والمعدات وآلات الحصاد الزراعية - اللوادر والمعدات الثقيلة الخاصة برصف الطرق وأعمال الإنشاءات - إقامة الصوامع - الشاحنات الثقيلة - محركات الديزل - الرافعات - سبائك الألومنيوم.
لماذا «بيلاروسيا» تحديدًا؟ قد يسأل أحد: ولماذا روسيا البيضاء أو «بيلاروسيا» تحديدًا وما أهمية العلاقات معها؟
وهنا تأتى الإشارة إلى أن هذه الدولة تمثل نقطة ارتكاز محورية فى خريطة العلاقات الخارجية المصرية فهى لا تعد فقط نقطة الالتقاء بين قارتى آسيا وأوروبا بحكم موقعها إلى جوار روسيا وأوكرانيا من ناحية وبولندا من ناحية أخرى، وإنما تمثل وفق تعبير «لوكاشينكو» نفسه «خط دفاع متقدم لروسيا» عندما قال إن «مينسك» لن تتنحى جانبًا عن «موسكو» إذا ما أراد أحدهم مباغتتها أو القتال ضدها، وفى 2006 وقعت كل من روسياوبيلاروسيا معاهدة تعاون مشترك مع تلميحات لتشكيل دولة اتحادية على أنقاض الاتحاد السوفيتى السابق.
تستهدف بيلاروسيا أن تكون مصر بوابتها لدخول سوق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولذلك فإن زيارة «لوكاشينكو» هى الثالثة له إلى القاهرة، وفى المقابل أجرى الرئيس السيسى زيارة هى الأولى من نوعها لمينسك فى صيف العام الماضى.
بعيدًا عن الأبعاد السياسية فى الزيارة، فالحقيقة أن التاريخ إن كان قد سجل للرئيس الراحل جمال عبدالناصر مقولة «من لا يملك قوته لا يملك حرية قراره» فإنه سيسجل أيضًا أن الرئيس السيسى عمد إلى جعلها واقعًا ملموسًا، فبعد أن انتهى خلال السنوات الأربع الأولى من حكمه من مشروعات البنية التحتية كشق الطرق وبناء محطات الكهرباء وحفر قناة السويس الجديدة وتوفير إمدادات الطاقة وغيرها، طفق يتجه إلى قطاع الصناعة ليقيله من عثرته التاريخية.
وإذا كنا قد اتفقنا مع الروس على تصنيع الطائرات المسيرة، فإن الرئيس السيسى قبل الزيارة بيومين كان يفتتح «مصنع 300» الحربى التابع لشركة أبو زعبل للصناعات المتخصصة فى صناعة ذخائر الأسلحة المتعددة الصغيرة والمتوسطة والقذائف، كما افتتح عددًا آخر من المشروعات الجديدة للإنتاج الحربى عبر الفيديو كونفرانس بالمصانع الحربية 144 ببنها، و270 بقها، و999 بحلوان.
لا يقتصر التصنيع الحربى على ذلك فقط وإنما تصنع مصر الدبابة الأمريكية M1A1 كما تصنع مدرعات التمساح وغيرها علاوة على الفرقاطات والقطع البحرية التى اتفقت مع الجهات المصدرة على نقل التكنولوجيا أو ال «know how» الخاصة بها إلى مصر.
من «التجميع» إلى «التصنيع» ليست الصناعات الحربية إلا محورًا واحدًا من محاور النهوض بالصناعة المصرية، فقد خصصت الدولة ممثلة فى البنك المركزى مبلغ 100 مليار جنيه كقروض بفائدة ميسرة للمشروعات الصناعية، كما أسقطت ديونًا بعشرات المليارات عن المصانع المتعثرة، علاوة على ذلك وجَّه الرئيس الحكومة فى أكثر من مناسبة بمواصلة الجهود الجارية للتحول من «التجميع» إلى «التصنيع»، وتوطين كثير من الصناعات فى مصر بالتعاون مع كبرى الشركات العالمية، وهو ما انعكس فى نشاط بعض القطاعات.
راحت القاهرة تنشئ أول مصنع لإعادة تصنيع إطارات الشاحنات فى إفريقيا، ويهدف الى إعادة تصنيع 75 % من الإطارات المستعملة والتى تهلك سنويًا فى مصر مما يوفر مبالغ طائلة تنفق على استيراد إطارات الشاحنات الجديدة.
قبل أيام أيضًا أعلنت شركة BMA Group الألمانية الانتهاء من تصنيع أكبر برج لتكرير بنجر السكر فى العالم لصالح شركة القناة للسكر بغرب المنيا الذى سيكون أكبر مصنع لسكر البنجر فى العالم عند اكتماله بنهاية 2020، بجانب تنمية واستصلاح 181 ألف فدان من الأراضى الصحراوية باستخدام المياه الجوفية، لإنتاج مليونى طن من بنجر السكر فى السنة.
داخل مصانع الإنتاج الحربى، وبعمالة مصرية 100 %، خرج أول لودر مصرى مطابق للمعايير العالمية إلى النور، وهناك 5 دول فى العالم تنتج «لودر» بنفس قدرة ومقاس المصرى، وهى أمريكا وكوريا الشمالية واليابان والصين والسويد، كما أن اللودر المصرى يماثل جميع اللوادر الأخرى وجميع مكوناته مصنعة ومنفذة بأياد مصرية باستثناء الموتور مستورد من الخارج.
بتكلفة 250 مليون جنيه تم الانتهاء من تطوير محلج الفيوم ضمن خطة لتحديث 11 محلجًا، كما سيتم استيراد 3 أو 4 محالج جديدة لمضاعفة حجم الإنتاج الحالى، وهناك خطة استثمارية وضعتها الدولة بتكلفة استثمارية تبلغ 21 مليار جنيه لتحديث البنية التحتية لمصانع الغزل والنسيج.
دشنت 11 شركة مصرية، متخصصة فى صناعة الملابس الجاهزة ومنتجات الأقمشة، تحالفًا لاتحاد تصنيع وتجارة الأقمشة، باستثمارات 5 مليارات جنيه، تحت علامة تجارية موحدة باسم «فاشون 180».. التحالف يضم شركات: إمبراطور، وهوبى، وجونيور، وفانيليا، وكول، وميلك، ودعدوش، ولو بيبى، وبوريل، وماركو لورى، وميلون، وتتلخص أهداف الكيان الجديد فى صد أى محاولات لإغراق السوق المحلية والحد من المخاطر، ومن المرتقب رفع الاستثمارات لنحو 10 مليارات جنيه خلال الفترة المقبلة.
وقعت الشركة المصرية لتكنولوجيا الأخشاب وشركة بتروجيت عقد إنشاء مشروع إنتاج الألواح الخشبية متوسطة الكثافة بمحافظة البحيرة، تكلفة المشروع نحو 210 ملايين يورو، ويعد أحد الحلول الفاعلة التى تطبقها وزارة البترول لدعم جهود الدولة فى تحويل قش الأرز من أحد التحديات البيئية نتيجة حرقه إلى فرصة للاستغلال الاقتصادى وتحقيق قيمة مضافة من خلال تصنيعه بطرق متطورة لتوفير منتجات ذات عائد اقتصادى متميز ويتزايد عليها الطلب محليًا.
دعم الدولة لا يقتصر على المنتج فحسب وإنما يستهدف المستهلك أيضًا، فخلال الشهر المقبل يطلق الرئيس السيسى مبادرة لتشجيع شراء المنتجات المحلية ومن المتوقع أن تنخفض أسعار سلع ومنتجات كثيرة من خلال المشاركة فيها، علاوة على الانخفاضات الحقيقية التى شهدتها أسعار عدد كبير من السلع على وقع التراجع الكبير فى سعر صرف الدولار.
النتائج الكلية كان طبيعيًا أن تترجم مساعى الدولة خلال السنوات الماضية وعملها على الاستثمار فى البنية التحتية التى تخلق الثروة فى تحسن بعض المؤشرات الاقتصادية سواء بالتراجع الواضح فى نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى، أو فى تحسن وضع الميزان التجارى بين الواردات والصادرات.
زادت الصادرات المصرية حتى إن البنك المركزى استقبل خلال 48 يومًا فقط منذ بداية يناير الماضى تدفقات نقدية بقيمة تجاوزت 12 مليار دولار، شملت هذه التدفقات، تحويلات المصريين العاملين فى الخارج، وحصيلة استثمارات الأجانب فى أذون الخزانة، إضافة إلى قيمة الصادرات المصرية، وأخيرًا عائدات السياحة التى ارتفعت بقوة، وهو ما انعكس فى قوة العملة المصرية، إذ وصل سعر صرف الدولار الأمريكى 15.49 جنيه نزولًا من 17.50 فى التوقيت نفسه من العام الماضى.
هذه الإصلاحات دعمت موقف القاهرة لأن تصبح ضمن الاقتصادات الأعلى نموًا فى العالم، ويتوقع بعض الخبراء الاقتصاديون أن تحتل مرتبة متقدمة عالميًا بين الاقتصادات العالمية بحلول 2030 فى ضوء المعطيات الحالية.
استمرارًا للمؤشرات والنتائج الإيجابية التى يحققها الاقتصاد، فقد تصدر معدل النمو المصرى قائمة معدلات النمو لأهم اقتصادات الشرق الأوسط لعامى 2018 و2019، ووفقًا لتقارير صندوق النقد الدولى فمن المتوقع أن يستمر تفوق معدل النمو المصرى على جميع معدلات نمو اقتصادات المنطقة لأعوام 2020و 2021 و2022.