عندما اقترب الفرنسيون من أسوار القاهرة ليحتلوها عمد القائد الشعبى «الأزهرى» عمر مكرم إلى «العامة» يحشدهم للمشاركة فى القتال إلى جانب الجيش، وهى الواقعة التى يرويها «الجبرتى» فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» قائلًا: «صعد السيد عمر مكرم أفندى نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقًا «علمًا كبيرًا» أسمته العامة «البيرق النبوى» فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه ألوف من العامة». ظل القائد الشعبى «الصعيدى» يقود مع عدد من علماء الأزهر التمرد ضد «الفرنسيين» ثم دخلت البلاد فى حالة من الفوضى انتهت بإسقاط حكم «خورشيد باشا» تعيين «محمد على باشا» واليًا بأمر القيادات الشعبية ومن بينهم عمر مكرم شريطة «ألا يخالف تعليماتهم» وألا يقر أمرًا يخص العامة دون الرجوع إليهم. تتداعى فى مخيلتى هذه المشاهد كلما تجدد الجدل حول مواقف الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، وآخرها عندما راح يوجه سؤالًا للدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة خلال مؤتمر الأزهر الأخير مستنكرًا «هو إحنا باقى لنا ايه بنحكم فيه غير مسائل الزواج والطلاق والأحوال الشخصية؟» قبل المضى فى الحديث عن أسباب الربط بين الحالتين والإجابة عن سؤال: هل الشيخ أحمد الطيب لا يكتفى بسلطته الدينية ويسعى لكسب زعامة شعبية وسياسية؟ هناك مجموعة من الملاحظات حول تفاصيل ما جرى فى المؤتمر الأخير:
الخشت «لوحة نيشان»
وجد الإمام «الطيب» فى وقوف الدكتور «الخشت» أمامه فرصة لن تتكرر، فراح يجعل منه «لوحة نيشان» يصوب إليها كل ما فى جعبته من ردود على من يطالبون بتجديد الخطاب الدينى، وغيرهم أيضًا.. فطفق يهاجم «أهل الصحافة والإعلام» بوصفهم «ليسوا أهل اختصاص».. كما هاجم «العلمانيين» و«الحداثيين» و«المتطرفين» و«الملحدين» ولم يسلم حتى «أهل السياسة» من تلميحاته، عندما تحدث عن عجز المجتمع عن «صناعة كاوتش السيارة» وقال يحكمنا الآن ترامب ونتنياهو وتعثر فى تذكر اسم الأخير، وهى تلميحات أقرب للشعبوية وتنطوى على قدر كبير من المبالغة فى جلد الذات. عكست لغة جسد فضيلة الإمام حالة من الانفعال تفوق ما يليق بمقام المنصب الرفيع، وما يستوجبه الموقف ذاته، فالمؤتمر عنوانه «تجديد الخطاب الدينى» والمتحدث «الخشت» أستاذ فلسفة الأديان ورئيس جامعة القاهرة، وعلاوة على ذلك هو عضو فى «مركز الحوار» بالمشيخة، وهو ما أوقع الرجل فى حالة من الدهشة، فأخذ يتساءل عن حالة الاستنفار غير المبررة ضده: لماذا يكال إلىَّ هذا الهجوم بسبب ما لم أقله ولماذا يُرد علىّ فى حالتى الاتفاق والاختلاف معكم؟!
مغالطة منطقية
لجأ «شيخ الأزهر» إلى «مغالطة منطقية» واضحة عندما قال للدكتور الخشت ما مضمونه: «كتابك هذا لم أقرأه فإن كان ما فيه «حقيقة مطلقة» فقد سقط ما تدعو إليه وإن كان «مشكوك فيه» فلا تأتينى به حتى تتأكد منه»، والحقيقة أن نقيض «المطلق» هو «النسبى»، ولا يمكن لبشر أن يقول إن ما كتبه حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وإن كان الأمر كذلك فالشيخ مدعو لعدم قبول المذهب الشافعى الذى غيره صاحبه - أساسًا - عندما جاء إلى مصر.. فضلًا عن قوله: «قولى صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب»؛ بل إنه مدعو لعدم قبول التراث بالكلية مادام واضعوه بشرًا وكل قول بشرى يؤخذ منه ويرد عليه. اعتدل الإمام فى وقفته أمام الميكروفون فتكلم وكأنه قادم من القرن الرابع الهجرى فحمد الله ثم قال: إن مصطلح تجديد الخطاب الدينى أصبح ملتبسًا وغامضا، وإن تراثنا يجدد نفسه بنفسه» وهو أمر غير مفهوم أن يصدر عن قيادة دينية بحجم الدكتور الطيب، كما أن وقوف «الإمام» مستميتًا فى الدفاع عن التراث بكل ما فيه من أخطاء وخطايا جعل من حق الكثيرين أن يتشككوا فى صدق دعوة الأزهر لتجديد الخطاب الدينى أو الفكر الدينى أو أى تجديد على الإطلاق.
الإسلام فى مواجهة الجميع
بنظرة عامة على ما قاله «الإمام الأكبر» خلال المؤتمر سنجد أنه وضع الإسلام فى مواجهة صريحة مع كل التيارات الفكرية من «التنويريين» و«العلمانيين» و«الحداثيين».. وحتى «المتطرفين» و«الملحدين» وهو أمر لو سلمنا به لأصبحنا نختزل الدين فى مجرد «أيديولوجيا» ولأفقدناه طبيعته السامية كمجموعة من المبادئ الروحية وحالة من الاعتقاد الداخلى لدى البشر حول الحياة والوجود. السؤال البديهى إذًا: إذا كان شيخ الأزهر يهاجم العالم الدكتور عثمان الخشت بهذه الضراوة وهو صديق قبل أن يكون أستاذ فلسلفة إسلامية – نفس تخصص الإمام - فكيف سيتعامل مع من دونه فى الإلمام بالتخصص؟.. ولم كل هذا التعقيد إذا كان الشيخ فى معرض رده عليه يقول «اسأل أى رجل خلف المحراث «يقصد فلاح» فى دينه ستجده يعرف الصواب والخطأ وتلك التصرفات المتطرفة المنسوبة للدين ستجده يدركها جيدًا وينكر كل الأعمال الإرهابية».. الأمر بسيط إذن ومرده إلى الفطرة الإنسانية السوية.
زعيم المسلمين السنة
بعيدًا عن تفاصيل المؤتمر، فقد بدا الإمام «الطيب» وكأنه «زعيم شعبى» يخوض حربًا على جبهتين: الأولى داخلية ضد كتائب العلمانيين والتغريبيين (بحسب الوصف المستخدم)، والثانية خارجية باسم الإسلام فى مواجهة أصحاب الأديان والمعتقدات الأخرى، وذلك عندما قال إن كل الطوائف الدينية استخدمت الدين فى حروبها من مسيحيين ويهود، فهل فضيلتك تستشهد بحروب المذاهب المسيحية بأوروبا لتؤكد أن الجميع لديهم حروب دينية إذن نحن «فى السليم»؟! «الزعامة» هنا تفسر كثيرًا من المواقف والتحركات بداية من هذا المؤتمر الذى ظهر فيه الإمام وهو يطرب لصوت التصفيق الذى أصبحت القاعة تضج به مع كل كلمة إيماءة وسكنة من جانبه وكأنه مؤتمر جماهيرى أو انتخابى، حتى وإن أراد أن ينفى عن نفسه ذلك بنهى ذلك الشاب الذى وقف ينظم الشعر دفاعًا عن الأزهر ضد مخالفيه عن استكمال ما يقول. يتحرك فضيلة الإمام فى كثير إن لم يكن كل المواقف من منطلق أنه قائد المسلمين حول العالم، متجاوزًا بذلك حقيقة ثابتة وهى أن الأزهر مؤسسة تابعة للدولة المصرية، وإن كانت تدرس العلوم الشرعية للطلبة من مختلف دول العالم فإن ذلك يجب أن يظل إضافة للقوة الناعمة للدولة المصرية لا خصمًا منها بخلق صدام وهمى بين المؤسسات.
تقاطعات مع المتطرفين بقى أمر مهم وهو أن نلفت انتباه فضيلة الإمام - إن أجاز لنا ذلك - إلى التقاطع الذى يحدث فى كثير من المواقف - ربما عن غير قصد - مع أجندات التيارات الدينية التى تنتهج الإرهاب مسلكًا وتمتلك تنظيمات شبكية حول العالم كالإخوان، فعندما يدافع فضيلته مثلًا فى كل مناسبة عن مسلمى الروهينجا فى ميانمار رغم خصوصية حالتهم ولا يتطرق لحرق مساجد المسلمين فى دولة كإثيوبيا مثلًا قد يفهم هذا الموقف على غير حقيقته. يحدث هذا فى الوقت الذى يلحظ الجميع أن عناصر الجماعة الإرهابية وألسنتها الناطقة من تركيا أصبحوا فى طليعة المهللين لفضيلة الإمام فى نهاية المؤتمر بعد أن سعوا للتخلص منه بعد وصولهم للسلطة بدعوى أنه كان قياديًا فى الحزب الوطنى المنحل عند بداية توليه إمامة الأزهر. لم ينس كثيرون الفخاخ التى انطوى عليها بيان المشيخة يوم فض اعتصام رابعة ومساواته يومها بين الدولة والإخوان باعتبارهما طرفين فى صراع سياسى، وإعلانه أسفه لسقوط عدد من الضحايا والترحم عليهم وتعزية أسرهم، وتأكيده على أن استخدام العنف لا يمكن أن يكون بديلًا للحلول السياسية، متجاهلًا أن الدولة فى أبسط تعريفاتها هى الجهة التى تحتكر استخدام القوة فى المجتمع لإحداث الاستقرار به، علاوة على دعوته حينها «جميع الأطراف» إلى ضبط النفس والحفاظ على الدماء الزكية. التقاطع الآخر مع أجندة التنظيمات الدينية يظهر من تأكيد الطيب فى أكثر من مناسبة من بينها المؤتمر الأخير على أن الحياة ما قبل مجيء الحملة الفرنسية كانت أفضل، وهو تعبير غير مباشر عن الحقبة المظلمة التى خضعت فيها مصر للسلطة العثمانية فاختفت منها كل أوجه الحضارة وانعزلت عن الاتصال بالعالم، وربما يكون هذا سببًا فى الربط الذى يراد له أن يحدث فى أذهان البعض بين الماضى والحاضر. ختامًا، فإننا وإن كنا نرصد ملامح ممارسة سياسية بشكل واضح، يجب أن ننوه إلى أن الشيخ الأكبر لم يفته فى الكلمة الختامية أن يشكر الرئيس عبد الفتاح السيسى على إسهامه فى إنجاح المؤتمر، وكأن «تجديد الخطاب» الذى أثبت المؤتمر أنه لا فرصة لتحقيقه فى المدى القريب لم يكن مطلبًا جرى على لسان الرئيس تعبيرًا عن مقتضى حال المجتمع.