القارئ للفكر الغربى والمتأمل للحياة فى الغرب يلاحظ إعلاء مفكرى الغرب وأشياعهم من غير الغربيين – بفخر- من شأن الخصوصية الفردية، والحديث عن كيف أنها ما يعطى الفرد قيمته واستقلاليته، فهم يعدونها من منجزات الديمقراطية الغربية التى يفخرون بها، بل ويعدونها القيمة الأخلاقية الأولى التى تتأسس عليها سائر القيم المجتمعية الأخرى. انتقلت هذه القيمة ضمن ما انتقل إلينا من الغرب نقلاً – للأسف- آليًا دون أن نحاول اختباره والتحقق مما إذا كان يناسب نسيجنا الاجتماعى أم لا. فلأننا لا نختبر عادة ما يأتينا من الغرب، ولا نتحقق غالبًا مما إذا كان يناسبنا أو لا، أو نحاول استقراء نتائجه التى قد تكون له، وكيف نستفيد منه إن أمكن، بل نتلقاه تلقيًا أعمى، فإن انتقال كل ما هو غربى من أدوات وقيم وسياسات إلى مجتمعنا العربي- بحكم أن الغربى هو الأكثر تقدمًا وقوة - لا يأخذ مجهودًا، لا من الناقل ولا من المتلقى. كان من نتيجة هذه الخصوصية الفردية التى انتقلت إلينا كشرقيين نتصف بالحميمية الاجتماعية التى تسم الشرق منذ قرون أن حدث فى مصر فى الآونة الأخيرة ما يلى: اكتشاف هياكل عظمية فى أحد المنازل لزوج وزوجة، هرما وحدهما فى المنزل فى الإسكندرية وتوفيا منذ سبع سنوات دون أن يشعر بهما أحد. ارتفاع نسبة الانتحار بين شباب صغير فى السن بطريقة لم يعهدها مجتمعنا من قبل، آخرها انتحار شاب من قنا من طلاب الأزهر، أى أن التعليم الدينى لم يحمه من الانتحار. انضمام شباب لجماعات متطرفة بعد هجرهم لمنازل الأسرة. بعد أن كنا نلوم التلفاز لتغريبه أبناء الأسرة الواحدة المجتمعة حوله عن بعضهم البعض، أصبح جهاز المحمول الآن يفرق بين الزوج والزوجة على الفراش الواحد. يحيا أبناء الأسرة فى البيت الواحد ولا يكاد أحدهم يعرف شيئًا عن الآخر، وإن كان هذا يحدث فى الريف بصورة أقل منه فى الحضر. ضاعت الحميمية التى كانت من أخص خصائصنا والتى كونت عقلًا جمعيًا مارس أدوارًا اجتماعية فى أوقات أشد ما كنا فيها للتآلف والترابط الاجتماعى، مثل أيام نكسة 1967، وحرب أكتوبر 1973 بالإضافة إلى تكريسه الأمان الذى كان يستشعره كل مار فى الطريق، خاصة الفتيات والسيدات، وحما فى كثير من الأحوال شبابًا من أسر أفكار متطرفة. فليجد الوالدان لأبنائهما وقتًا مهما شغلهما البحث عن لقمة العيش، وذلك قبل أن تطرق الشرطة الباب علىهم بحثًا عن ابن أو ابنة ارتكب أو ارتكبت جرمًا كان من الممكن حمايته أو حمايتها منها لو أُعطيا جزء من وقت الوالدين. وليستمع الأبناء للوالدين قبل أن يأتى يوم يتمنون فيه نصيحة مخلصة أو صفعة حب وخوف عليهم فلا يجدونها لغياب من كان من الممكن أن يقدمها. وإذا كان هذا المقال يتحدث عن الفهم والتطبيق الصحيح للخصوصية فى العلاقة بين أبناء الأسرة الواحدة من حيث أنها نواة المجتمع، فلا بأس أن نصعد منه إلى المبدأ العام وهو ضرورة تعلم اختبار كل الوارد من المجتمع الغربى والتحقق من فائدته أو مدى القدرة على الاستفادة منه. ما لم نفعل هذا سيظل مصيرنا فى يد الغير – ظروفًا كانت أو أناسًا، رغم أننا نستطيع أن نصنع حاضرنا ومستقبلنا صناعة واعية إذا ما أصبحنا واعين ثم فاعلين بشكل أفضل. * أستاذ الفلسفة بجامعة المنيا