لم يكن ظهور اليمين وتصاعد أصواتهم وخطابهم المتطرف مفاجأة، فقد كانت هناك تحزبات وحركات تمثلهم فى أمريكا وأوروبا على مدار سنوات طويلة، لكن المؤكد أن أصواتهم تعالت أكثر بعد ظهور الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» وحتى قبل فوزه فى الانتخابات الرئاسية، فمبجرد ترشح «ترامب» ونقل الإعلام لخطاباته المليئة بالعنصرية ورفض المهاجرين من غير البيض سواء كانوا عربًا أو مكيسكيين إلى غير ذلك، بدأ المؤيدون لفكر «سيادة العرق الأبيض» فى تنظيم تظاهرات عدة ووضع ملصقات رافضة للآخر لجذب الانتباه وجمع أكبر عدد من المؤيدين وتشجيعهم على المشاركة فى فعاليات تلك المجموعات المتطرفة. وبعد نجاح «ترامب» فى الانتخابات.. أصبح خطاب العنصرية أقوى وأصبح المؤيدون للفكر العنصرى أكثر جرأة من ذى قبل، وهو ما أدى إلى تصاعد التيار اليمينى المتطرف الذى يتبنى أفكار «سيادة العرق الأبيض» ويرفض وجود أى عرق آخر، بل إن بعضهم يطالب بطردهم من أوروبا خوفًا من أن يزداد عددهم ويحلوا محل العرق الأبيض الذى يحذرون من أنه سيختفى بسبب المهاجرين. وقد حاول مستشارو «ترامب» مرارًا نفى اتهامات له بالعنصرية وتبنى خطاب الكراهية ضد الآخر والترويج لفكر «سيادة العرق الأبيض» المتطرف، لكن يبدو أن هذا النفى لا يزيد الأمر إلا تأكيدًا، خاصة أن الرجل نفسه يتحدث بعكس ذلك ويعترف برفضه للمهاجرين إلا من أوروبا. آخر سقطات «ترامب» المتلاحقة هى مشاركة متابعيه لحوار أجراه مع موقع «بريتبارت» اليمينى والذى قال فيه «ترامب» إن مؤيديه بمن فى ذلك العاملون فى الشرطة والجيش لا يواجهون خصومهم السياسيين بنفس «الشراسة»، لكنه أكد أنهم يستطيعون أن يكونوا أكثر شراسة وسيكون الأمر سيئاً للغاية.. سيئاً للغاية». الغريب أن الرئيس الأمريكى قام بمسح تغريدته تلك بعد ساعات قليلة من وقوع الحادث الإرهابى فى «نيوزيلندا» ونشر الإعلام للبيان الذى كتبه منفذ الحادث اليمينى المتطرف والذى أكد فى بيانه على إعجابه ب«ترامب» وإيمانه بأفكاره العنصرية الداعمة لسيادة العرق الأبيض. والمثير أن «ترامب» نادرًا ما يحذف تغريداته إلا من أجل تعديلها لغويًا أو إملائياً.. فهل شعر الرجل أنه قد يتهم بالتحريض فى هذا الحادث بعد انتقاده لمؤيديه بأنهم لا يستخدمون قوتهم ودعوتهم إلى أن يكونوا أكثر شراسة؟ المؤكد أن الحوار حمل خطاب كراهية تحريضيًا عنصريًا، لكنه متسق تمامًا مع كل خطابات الرئيس الأمريكى منذ كان مرشحًا رئاسيًا وربما قبلها، لكن الإعلام لم يكن يركز عليه عندما كان رجل أعمال، وبالطبع اختلف الأمر مع «ترامب» المرشح الرئاسى ثم رئيس واحدة من أهم وأكبر دول العالم، بل أهمها والمسيطرة على مجريات الأمور فى العالم. ورغم أن «ترامب» لم يتحدث صراحًة عن تأييده لسيادة العرق الأبيض، فإن كلماته وفكره الذى يظهر فى كل قراراته وخطاباته وحتى تغريداته المثيرة للجدل عبر موقع «تويتر»، جميعها تؤكد أنه يتبنى فكر اليمين ويؤمن به. والأهم أن الداعم الأكبر لليمين الأوروبى حاليًا هو «ستيف بانون» كبير مستشارى «ترامب» السابق والذى يبدو أن إعفاءه من منصبه لم يكن بسبب خلافات كما اعتقد المحللون السياسيون وروجت الصحافة العالمية، بل من أجل تكليفه بمهمة أكبر وهى تأسيس مجموعة أو منظمة باسم «الحركة» أو «The Movement» لتجميع أصوات اليمين فى أوروبا، وقد كان اختيار «بانون» لتلك المهمة فى منتهى الذكاء.. فالرجل ضابط بحرية سابق اشتغل بالسياسة إلى جانب ترأسه لموقع «بريتبارت» الذى شهد نجاحًا مدويًا فى عهده حتى إنه تخطى، وفقًا للإحصائيات الإعلامية، شهرة موقع «دايلى ميل» البريطانى الذى ينشر أخبار النجوم.لكن «بريتبارت» يتابع الأخبار من جانب ويبث الفكر اليمينى المتطرف من خلال تلك الأخبار فيركز على الأخبار التى تخص جرائم المهاجرين ليحولهم إلى الخطر الحقيقى الذى يجب أن تفكر فيه الدولة وتحشد من أجل مواجهته. آخر ما نشره الموقع العنصرى فى أعقاب الحادث الأخير هو نشر خبر فى 17 مارس الجارى حول عدد من الجرائم التى يرتكبها متطرفون إسلاميون ضد المسيحيين فى نيجيريا.. ورغم أن الخبر يستحق بالفعل الاهتمام الإعلامى، فإن الموقع لم ينشر أى خبر عن تلك الحوادث إلا بعد وقوع حادث «نيوزيلندا» الأخير وجاء العنوان «الصمت الإعلامى يحاصر مذابح المسيحيين على يد المسلمين»، بينما بدأ الكاتب «توماس ويليامز» مقاله بانتقاد السياسيين والشخصيات العامة الذين انهاروا على مدار الأسبوع معلنين رفضهم لحادث «نيوزيلندا» ،بينما غضوا الطرف عن مذابح المسيحيين فى نيجيريا. وفى عام 2017، كشفت الصحافة أن «جاك هادفيلد» الكاتب بموقع «بريتبارت» هو نفسه المسئول عن مجموعة أو «جروب» على موقع «فيسبوك» يروج للفاشية وسيادة العرق الأبيض. المجموعة تعرف نفسها بأنها مكان لليمينيين بهدف مناقشة سياسات التيار اليمينى وفلسفته»..أى أنها منصة للعنصرية والكراهية. ففى سبتمبر 2017 كان « بانون» فى مهمة خاصة فى القارة الأوروبية وهى إقامة تحالف بين أحزاب اليمين فى مختلف دول أوروبا ليشكلوا قوة فى مواجهة التيارات الليبرالية الحالية والتى تقف فى سبيل تنفيذ مخططات الإدارة الأمريكية الحالية. الجولة الأوروبية تلك كانت للترويج للمنظمة التى قرر بانون تأسيسها فى «بروكسل» لتوفر مساحة لزعماء التيارات اليمينية فى أوروبا للاجتماع والتعارف وتشكيل تحالف كان «بانون» قد أجبر على ترك منصبه فى البيت الأبيض، لكن يبدو أن الأمر كان مجرد تغيير للأدوار وخطة لجعل الرجل ذى الآراء العنصرية المثيرة للجدل يتفرغ لمهمته الأكبر فى أوروبا وهى استحواذ أحزاب اليمين على الانتخابات البرلمانية المقبلة خلال العام القادم لتصبح أوروبا قارة يحكمها التيار اليمينى. كان فوز «ماتيو سالفينى» زعيم حزب «رابطة الشمال» فى الانتخابات البرلمانية فى مارس الماضى بأكثر من %17 من الأصوات إيذانًا ببدء مرحلة جديدة فى السياسة الإيطالية، وبالتالى فقد كان من الطبيعى أن يبدأ «بانون» الترويج لمنظمته الجديدة فى سبتمبر 2018 من إيطاليا التى يحظى فيها التيار اليمينى بشعبية واسعة حاليًا، حيث أعلن فى مؤتمر صحفى عقد فى روما أن المنظمة ستكون الأساس القوى والصلب الذى سيساهم فى فوز أحزاب اليمين الأوروبية فى الانتخابات البرلمانية عام 2019 مشيرًا إلى أن المنظمة ستضم خبراء فى مجالات متعددة منها الاقتراع وتحليل البيانات وبدائل الإعلام إلى جانب خبراء فيما سماه «غرف الحرب» الخاصة بالحملات الانتخابية والتى تتميز بسرعة الاستجابة. «بانون» أعلن فى المؤتمر نفسه أن أوروبا ، مثلها فى ذلك مثل الولاياتالمتحدة خلال انتخابات 2016، أصبحت مستعدة لتغيير جذرى فى سياساتها، وفى «التشيك» حصل الحزب اليمينى «الحرية والديمقراطية المباشرة» بقيادة رجل الأعمال «توميو أوكامورا» على 10 بالمائة من أصوات الناخبين رغم خطابه العنصرى المعاد للإسلام والمضاد للاتحاد الأوروبى، بينما يعتبر حزب «أتاكا» هو أكبر الأحزاب اليمينية فى «بلغاريا»، وهو متطرف فى أفكاره ونزعته القومية، وقد حصل الحزب بزعامة «فولن سيديروف» على 21 مقعدًا فى البرلمان البلغارى فى الانتخابات الأخيرة. وفى «هولندا» يمثل حزب «الحرية» ثانى أكبر تيار داخل البرلمان الهولندى، إذ حصل فى مارس 2017 على 20 مقعدًا، بينما أصبح حزب «الشعب» ثانى أكبر الأحزاب شعبية فى «الدنمارك» وأكدت ذلك نتائج الانتخابات العامة فى يونيو 2015، إذ حصل الحزب على 17 مقعدًا فى البرلمان، وهو ما أهله ليكون جزءًا من الائتلاف الحاكم، كما حصل أعضاء الحزب على 4 مقاعد من بين 13 مقعدًا مخصصة للدنمارك بالبرلمان الأوروبى. ولا يزال صعود اليمين مستمرًا ولاتزال أصوات التحريض والعنصرية تتصاعد وستكشف انتخابات أوروبا هذا العام عن وجه جديد لتلك القارة التى طالما استقبلت الجنسيات المختلفة وتفاخرت بالتعايش السلمى والاندماج الرائع وحرية ممارسة العقائد التى تتمتع بها والتى تفتقدها الكثير من المناطق فى العالم.. فهل تتغير الأوضاع وتكشف أوروبا وأمريكا مجتمعين عن الوجه القبيح لليمين العنصرى المتطرف الداعم لسيادة العرق الأبيض؟