فى مصر، يخضع المواطنون لدستور يحتكم إلى الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، هذا التعريف، لن يأخذ شكله القانونى، التشريعى، والتنظيمى فحسب، بل إنّه سيُلوّن تاريخ الدولة الحديثة بالصراع المرير، الذى لن ينتهى، بين الحركات الإسلاميّة والدولة، يُتيح لنا كتاب «إسلام الدولة المصريّة.. مفتو وفتاوى دار الإفتاء» أن نتعرّف، لأوّل مرّة بالعربيّة، على تاريخ دار الإفتاء، من حيث كونها طرفًا فاعلًا ورئيسًا فى هذا الصراع.. قاده فى مرّات، واقتيد إليه فى مرّات أخرى، أكثر. هذه الفكرة، كانت فى الأصل، محور أطروحة دكتوراة، لباحث دينى دنماركى، هو جاكوب سكو فجارد - بيترسون، الذى رأس لثلاث سنوات معهد الحوار المصرى الدنماركى هُنا فى القاهرة، صدر الكتاب بالإنجليزية عام 1997 وانتظر طيلة هذه السنوات، حتى يظهر فى ترجمة إلى العربية أعدّها الدكتور السيّد عمر، أستاذ النظريّة السياسية الإسلاميّة بجامعة حلوان. والشاهد أن هذا المرجع، المُهمّ والرائد، لم يكن غائبًا عن دارسى الشأن، فهناك اقتباسات عديدة من الأصل الإنجليزى استعان بها بحث هنا أو مقالة هناك، عن رؤية الإسلام للحداثة، لكن أحدًا لم يُفكّر فى إتاحة هذه الدراسة إلى القارئ العربى، قبل هذا العام، مع التحفّظ الذى يُفهم إبداؤه إزاء نشر الكتاب بواسطة دار إسلامية، تتّخذ مقرّها فى الكويت، تُدعى دار نهوض للدراسات والنشر، وهى نشاط ضمن مجموعة «وقف عائلى» باسم «نهوض لدراسات التنمية»، فضلاً عن ما يُمكن وصفه ب«الصبغة الإسلامية» التى طبع بها المترجم بعض عبارات الكتاب لدى ترجمتها، وسيكون يسيرًا اكتشاف بعضها مع استخدام تعبيرات مثل «تشبّه الرجال بالنساء وتشبّه النساء بالرجال»، و«الغرب الفاحش». عدا هذا الحذر المطلوب، يمكن استقبال كتاب بيترسون بنهم بالغ، بما يُتيحه من معلومات وتفاصيل، كشفها اطّلاعه على سجلات دار الإفتاء على مدار مائة عام، منذ إنشاء دار الإفتاء فى 1895 حتى عام 1996 ينطلق المؤلّف من الأسئلة: ما هو الإسلام الذى تُعرَّف به دولتنا، ويحكم حياتنا؟ من يُحدّد من؟ الدولة هى التى تُعرّف الإسلام، أم الإسلام هو الذى يُعرّف الدولة؟ هذه الأسئلة تَنازع للإجابة عنها كل أطراف الدولة تقريبًا، وفى قلب الصراع، كان طبيعيّا أن يخرج «المُفتى»، بما للفتوى من سحر وسطوة وتقدير ونفاذ فى بلاد تُعرّف نفسها بالدين، فى مُهمّة أكبر من مُجرّد كونه موظّفًا عامًّا لدى الدولة. فى مصر، يلجأ المواطن إلى الشيخ، والعالِم، وإمام المسجد، والمُقرئ فى الكتاتيب، إلى أن يصل إلى المُفتى فى الأزهر ليستفتيه أيّ جانب يصحّ أن يتوسّده عند النوم، وتكبر دائرة الفتاوى حتى تشمل المساهمة فى الأحكام القضائية. سيكون طريفًا، وإن كان منطقيًّا أن تهوى الأنظار إلى مصر، بأزهرها الشريف ودار إفتائها الشامخة، أو عندما نعرف من بين فصول الكتاب، أن ابن سعود أرسل فور تأسيس المملكة السعودية عام 1926 برقيّة إلى القاهرة يطلب فيها فتوى الأزهر والمفتى بخصوص التوسّل بالأولياء والطواف بأضرحتهم، والتدخين والموسيقى، وأنّه فى فتوى مشتركة أجاز الأزهر والمفتى هذه الأمور جميعها. ستكون دار الإفتاء، مع الوقت، هى «شكيبة» - بحسب وصف المؤلّف - الحياة الإسلامية العصرية فى مصر. لكن كيف نشأت «ولاية المفتى» التى تكلّم عنها ابن خلدون بوصفها «واحدة من المصالح العامّة للأمّة الإسلامية»، بالصورة التى منعت «الحُكّام» من الوقوف أمام سطوة الفتوى، أو من أن «يمنعوا الناس من استشارة من هم أشدّ ثقة فيهم»؟ وهل توقّف تطوّر «شيخ الإسلام»، اللقب الذى أطلقته الإمبراطورية العثمانية على منصب المُفتى، عند الصورة التى أصبح عليها مُفتى الديار المصريّة اليوم؟ لست سنوات، ظلّ جاكوب سكوفجارد بيترسون 1963 ويعمل أستاذًا للأديان بقسم الدراسات الثقافية والإقليمية بجامعة كوبنهاجن، يبحث فى تاريخ الصراع والمنافسة، بين دار الإفتاء، أو المفتى الرسمى، وبين كيانات أخرى، تفرّقت بينها دماء الفتوى فى مصر: مثل لجنة الفتوى بالأزهر وهيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، وحتى أشكال دوليّة للإفتاء كرابطة العالم الإسلامى، والمجمع الفقهى التابع بها. هؤلاء نازعوا تعريف الدولة بالإسلام، أو بمعنى أكثر وضوحًا، التدخّل لإعادة الهيبة للتعليم الدينى فى مصر، ولم يكن الأزهر مهمومًا بهذا الدور فقط، بل إنها كانت إحدى الدعائم التى قامت على أساسها جماعة الإخوان المسلمين، وظلّت، وتظلّ، تُحارب من أجلها سنوات. فطنت الدولة مُبكّرًا، منذ عهد محمد على، إلى الدور المتنامى لعلماء وشيخ الأزهر، رغم أن الأزهر نفسه نشأ بوصفه جزءًا من أجهزة الدولة. اتّجه محمد على إلى إقصاء العلماء من أجل إحكام سيطرته على البلاد، ومع ظهور الصوفيّة «كحيّز آخر يمكن للمرء فيه أن يعمل دون مراقبة من الدولة»، انتبه محمد على سريعًا، لإدخال الطرق الصوفيّة داخل جهاز الدولة، عبر تعيين شيخ رسمى للطريقة. هكذا كان الوضع مع الفتوى والمفتين ودار الإفتاء، مع القرن العشرين، تغيّر وضع دار الفتاء، وأصبحت معطيات العصر غير قابلة للتهاون معها. ظهر بحسب وصف المؤلّف «جمهور إسلامى جديد»، وظهرت الفتاوى المطبوعة فى صحف الحركات السلفيّة، المنار على سبيل المثال، فلم تعد الفتوى صادرة لشخص واحد وفى حالة معينة، بل بالإمكان تداولها على نطاق أوسع، وفى حالات افتراضية واسعة، ظهور الطباعة عمومًا، «أطاح بسلطة العلماء على الكلمة أو النص الإسلامى» ومرّة أخرى، ظهر سلطان الدولة، الحاكم، ومرّة أخرى لم ترض ولاية المفتى الاستسلام بسهولة، وما يُميّز الكتاب، أنه يستعرض فترات المفتين الذين مرّوا على دار الإفتاء حتى فترة الدراسة، عام 1996 وكان لا يزال سيدّ طنطاوى على رأس الإفتاء فى مصر. وبيترسون يبرع فى تصعيد المَشاهد وهو يسرد تاريخ دار الإفتاء مع محمد عبده مثلاً، إلى أن يصل إلى جاد الحقّ، الذى ألحق باسمه وبدار الإفتاء هيبة من نوع خاص، تعاود الظهور بعدما يصبح شيخًا للأزهر ويتولّى سيد طنطاوى دار الإفتاء ويصبح مفتى الديار المصرية. تفاعلت دار الإفتاء مع المجال العام على ثلاث فترات تاريخية من حكم مصر: الأولى قبل ثورة 1952 تبدأ هذه المرحلة مع إنشاء دار الإفتاء المصرية وتنتهى بقيام الثورة. لم يكن الاحتلال البريطانى يُوجّه اهتمامًا يُذكر بالإفتاء والمُفتين. وأقيمت إلى جانب دار الإفتاء، مؤسّسات إسلامية ودولية نافستها كرابطة العالم الإسلامى والمجمّع الفقهى التابع لها، إلى جانب هيئة كبار العلماء ولجنة الفتوى التابعتيْن للأزهر الشريف. فى ذلك الوقت صعدت جماعة الإخوان، الذين رفعوا شعار «الإسلام دين ودولة»، دستورها القرآن. بينما يُفسّر المؤلّف ظهور هذه الجماعات فى الإسلام المعاصر، ب«نمو نفوذ وسُلطة المسلمين العاديين»، لكن كيف كان تأثير ظهور الإخوان على إدارة الفتوى فى مصر؟ جاء الإخوان متأثّرين بالفكر السلفى، البنّا يرث المنار بعد وفاة رشيد رضا، ويتصاعد نفوذ الجماعة بوصف أعضائها «وُعّاظا»، ليُخرجوا الفتاوى من حدودها الضيّقة التى وضعها العلماء فيها عن طريق حصرها فى «المدارس الفقهيّة» ولأغراض تعليمية فقط، كان تأسيس جماعة الإخوان فى حد ذاته إحدى صور مُقاومة «كبح التعليم الدينى فى مصر القرن العشرين». ومع أواخر ثلاثينيّات القرن، رسّخت الجماعة نفسها ك«عامل مُهمّ فى السياسة المصريّة»، عامل مُزعج، وصار لها «مرجعيّتها الدينية الخاصة بها» البعيدة كل البعد عن الدولة، التى فى نظرها هى فى حالة جاهلية دائمة. وقتها كتب سيّد قطب «فى ظلال القرآن» فأصبح للجماعات الراديكالية «تفسيرٌ للقرآن خاص بها». بعد الثورة وحتى السبعينيات. تبدأ المرحلة الثانية من حياة دار الإفتاء، وفيها «أفول» لدور الدار وتقلّص لدور المفتى فى المجال العام. ظهرت وقتها هيئتان معنيتان بالفتوى، هما: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومجمع البحوث الإسلامية، يكتب المؤلّف عن تلك الفترة، «أصبح المفتى مُجرّد موظّف حُكومى مدنى» تأتى بعد ذلك، فترة إحياء لدار الإفتاء، مع تولّى جاد الحق منصب المفتى العام فى الفترة من 1978 إلى 1982 يقول المؤلّف، وقد توقّفت فترة دراسته مع بدايات عهد مبارك، أنّ «نظام حكم مبارك لم يَحسم أمره بخصوص التصدّى للمعارضة الإسلامية، أم بالنأى عن المنافسة، وستعتمد دار الإفتاء على النهج الذى تُقرّره الدولة». فى هذه المرحلة، ظهرت الفتاوى السياسية، المُوجّهة ضد «السلفيين الجُدُد» يقول المؤلف: «مع ظهور الإرهاب الإسلامى، أصبح مفتى الديار المصرية لاعبًا محوريًا فى الصراع الأيديولوجى» أهمّ مُفتِى تلك الفترة، جاد الحق وسيد طنطاوى، والأخير نال شهرة عالية. تولّى طنطاوى منصب مفتى الديار المصرية فى العام 1986 وأبرزته الدولة وأتاحت له كل الوسائل للتمكين، وابتعد عن الفتاوى الصغيرة فى الأمور الثانوية اليسيرة، واتّجه إلى الفتاوى الكبيرة التى تتعلّق بالظواهر الاجتماعية الجديدة، فتاوى الاقتصاد والسياسة والطب. مع طنطاوى، عادت لدار الإفتاء قوّتها ومركزيّتها، لكن فى ظرف مناخى سياسى مختلف عن بدايات القرن العشرين، على مدار المائة سنة الأولى، كانت الرغبة فى تطبيق قوانين علمانية انطلاقًا من الشريعة الإسلامية. كان هذا فى مطلع القرن، لكن فى العقود الأخيرة منه، بدأ الاتجاه نحو «تقنين أحكام الشريعة»، أى الاحتكام إلى دولة قانون وليست «ولاية الفقيه» من هنا وجّهت المعارضة الإسلامية سهامها وانتقاداتها وحروبها نحو طنطاوى. سعت إلى تأسيس قطاع خاص يعمل بالحلول التى يرونها أكثر إسلامية من الحلول والفتاوى التى يُقدّمها المفتى، وأصبح لهم مفتوهم الخصوصيون، الإفتاء الموازى للإفتاء الرسمى.