القائد الذى لا يتمتع بالقبول والتوافق من رجاله ومساعديه حتمًا ستكون جبهته ممزقة، وجهوده ضائعة، ومن هنا يبقى الرئيس الفلسطينى السابق ياسر عرفات أحد التوافقيين الذين جمعوا قلوب الفلسطينيين ومقاومتهم على قلب رجلٍ واحد. مصر لها النصف فى ياسر عرفات المُكنى ب«أبو عمار»، باعتباره من مواليد القاهرة لأسرة فلسطينية، فأبوه عبدالرؤوف عرفات القدوة الحسينى من غزة، وجدته مصرية، وعمل أبوه فى تجارة الأقمشة بحى السكاكيني، وكان «عرفات» الولد السادس لأسرة فلسطينية تتكون من 7 أفراد، وولد هو وأخوه الصغير فتحى فى القاهرة. قضى عرفات مراحل طفولته ومرحلة شبابه الأولى فى القاهرة، وتوفيت والدته زهوة أبو السعود عندما كان فى الرابعة من عمره بسبب قصور كلوي. بعدها سافر إلى القدس وعاش فيها، إلى أن تزوج والده بامرأة ثانية فى 1937، فأخذه أبوه وأخته إنعام ليعيش معهما فى القاهرة، ولم تكن علاقته بأبيه، على ما يُرام، فمع الوقت كانت تزداد سوءًا، حتى أن ياسر عرفات لم يحضر جنازته عام 1952، وحتى بعد عودته إلى غزة، لم يذهب لزيارة قبره، وقالت أخته إنعام إن خلافه مع والده كان بسبب تردده على أحياء اليهود بالقاهرة، وأوضحت أنها حينما سألته عن السبب قال لها: إنه يريد أن يعرف اليهود أكثر وكيف يفكرون، ليعرف كيف يتعامل معهم؟. تعلم «عرفات» فى القاهرة وتخرج من مدارسها واكتسب لهجتها التى لم تفارقه حتى وفاته، وفى أربعينيات القرن الماضى تعرف على «موشى ديان»، -وزير الدفاع الإسرائيلى فيما بعد- بحى السكاكيني، وبرر معرفته ب«ديان» بأن من عرف لغة قومٍ أمن مكرهم. تقول عنه أخته الكُبرى إنعام إنه رغم معرفته ب«ديان»، إلا أنه كان يشارك فى كل المظاهرات، وكنت أجرى دائما وراءه لإعادته للبيت، وكثيرًا منعت عنه المصروف عقابًا له، إلا أن ذلك لم يُرجعه عن فعلته. تزوج من سهى الطويل عام 1990، وقالت سهى عن زواجها منه إنها حاولت الطلاق منه مائة مرة، وأن أمها رفضت هذا الزواج وأنها لو كانت تعلم ما ستمر به لم تكن لتتزوج منه، لكنها أوضحت أنه رغم أن الحياة منعه كانت صعبة إلا أن العيش بدونه كان أصعب». أثناء حرب فلسطين 1948 ترك الجامعة، وارتدى ثياب الحرب وانضم للجيوش العربية المحاربة لإسرائيل، وبعد ذلك حارب مع الفدائيين الفلسطينيين، لكنه لم ينضم رسميا لأى منظمة، وعاد للقاهرة بعد هزيمة الجيوش العربية وانقطاع الدعم عنها. بعد عودته للقاهرة استكمل دراسته وانتخب رئيسًا لاتحاد الطلاب الفلسطينيين فى القاهرة فى الفترة من 1952 إلى 1956، واستُدعى للجيش المصرى فى أثناء العدوان الثلاثي، وبعد ذلك سافر إلى الكويت وعمل مهندسًا هناك، وعندما حضر مؤتمرًا فى مدينة براغ مطالبًا بجلاء الاحتلال مع غيره من الفلسطينيين ارتدى كوفية بيضاء، وانتشرت هذه الكوفية فى الكويت، وفلسطين وأصبحت رمزًا للمقاومين. اختار لنفسه لقب «أبو عمار» ليكون اسمًا حركيًا له فى حركة فتح بعد تأسيسها، وكان حريصًا على ارتداء الزى العسكرى وحمل المسدس، مع ارتداء الكوفية الفلسطينية بشكل شبه دائم، فأصبح له شعبية جارفة بين الشباب المتحمس للمقاومة، ولقبه الفلسطينيون ب«الختيار» أى الجد حسب المتعارف لدى الشعب الفلسطيني. شكل مع أصدقائه خليل الوزير، وصلاح خلف، وخالد الحسن، وفاروق القدومي، حركة فتح، فى الفترة ما بين 1958 و1960، واعتمد فى تمويلها على مقتطعات من رواتب الفلسطينيين المغتربين، ورفض «عرفات»، الحصول على تمويل من أنظمة عربية حتى لا يكون مضطرًا للخضوع والعمل تحت أيديولوجيتهم. ويُعتبر اسم حركة فتح، اختصارًا معكوسًا، ل«حركة التحرير الوطنى الفلسطيني، وبعد ذلك اسُتخدمت كلمة فتح ومعناها النصر على العدو كاسم خاص للحركة، وفى 1963، اعترفت الدول العربية بأن منظمة التحرير الفلسطينية التى أُنشئت فى نفس العام، الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، واعتبر مجلس جامعة الدول العربية أن رئيس المنظمة ممثِلاً لفلسطين لدى الجامعة، وفى يناير 1965 بدأت العمليات المسلحة لحركة فتح، حيث تمت محاولة تفجير نفق عيلبون، وبعد ذلك اندلعت حرب 1967 التى كان لنتائجها تأثير كبير على الثورة الفلسطينية بعد الهزيمة المُرة التى أدت فى المحصلة إلى احتلال إسرائيل لرقعة واسعة من الأراضى العربية ومن ضمنها الضفة الغربية وقطاع غزة مما قضى على بقية الأمل لدى الفلسطينيين من إمكانية تحرير فلسطين وإعادة المهجرين بواسطة القوة العسكرية للجيوش العربية. ورسَّخت الهزيمة فى ذهنية الشعب الفلسطينى صحوة نضالية تقتضى بضرورة الاعتماد على الذات لتحرير الأرض. وقد سنحت الفرصة لعرفات بالتسلل عبر الأراضى الأردنية إلى الأراضى المحتلة بعد أسبوع من الهزيمة متخفياً تحت أسماء ومهن مستعارة، حيث اتصل برجال المقاومة وحاول ترتيب أوضاعها. أُعلن ياسر عرفات زعيمًا لفلسطين من الرئيس المصرى الأسبق جمال عبدالناصر، فى ستينيات القرن الماضي، وفى إطار اتفاقية أوسلو تم إقامة سلطة وطنية فلسطينية، مرحلية مؤقتة، لحين البدء، فى مفاوضات الحل النهائي، والوصول لحل الدولة الفلسطينية على أراضى عام 1967، وفى 1994 عاد ياسر عرفات، مع أفراد القيادة الفلسطينية، إلى الأراضى التى أعلنت عليها السلطة، وهى (أجزاء من الضفة وقطاع غزة) وقد التزم عرفات خلال ذلك، بإيقاف الأعمال المسلحة ضد إسرائيل، وبعد الاتفاقية فاز عرفات واسحق رابين وشيمون بيريز بجائزة نوبل للسلام، وبعدها انتخب عرفات رئيسًا للسلطة الفلسطينية، بنسبة نجاح 88%. فى يوليو2000 التقى ياسر عرفات، برئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود باراك فى كامب ديفيد، برعاية الرئيس الأمريكى بيل كلينتون، فى محاولة للاتفاق على حل نهائى للأزمة، إلا أن عرفات لم يقبل بأنصاف الحلول ورفض التوقيع على الحل المطروح، والذى اعتبره عرفات منقوصا، ولا يلبى من وجهة نظره السقف الذى يطمح له الفلسطينيون وهو حدود 1967. من هنا بدأت حالة العداء بين إسرائيل وياسر عرفات، وكانت تل أبيب تصفه داخليًا ب«الإرهابى الأكبر»، وحينما اندلعت الانتفاضة فلسطينية الثانية اتهمت إسرائيل ياسر عرفات بالتحريض على أعمال العنف من طرف خفى أو بشكل موارب وأحيانا فى العلن، خاصة بعد إطلاقه شعار (على القدس رايحين شهداء بالملايين). فى هذه الأثناء قررت إسرائيل محاصرة «عرفات»، ومنعته من مغادرة «رام الله»، ولذلك لم يحضر القمة العربية ب«بيروت»، فى مارس 2002 خشية ألا يسمح له بالعودة إذا غادر الأراضى الفلسطينية، وفى 29 مارس من نفس السنة حاصرته القوات الإسرائيلية داخل مقره فى المقاطعة مع 480 من مرافقيه ورجال الشرطة الفلسطينية وهكذا بدأت حالة من المناوشات التى يقتحم خلالها الجيش الإسرائيلى ويطلق النار هنا ويثقب الجدار هناك، بينما بقى عرفات صامدا فى مقره متمسكا بمواقفه، وجاءه مئات المتضامنين من كافة أنحاء العالم. وفى أكتوبر 2004 ظهرت أولى علامات التدهور الشديد لصحة ياسر عرفات، فقد أصيب بمرض فى الجهاز الهضمي، مع معاناته من أمراض أخرى وشُخِّصه حالته بجرح فى المعدة وحصى فى كيس المرارة، وعانى ضعفاً عاماً وتقلباً فى المزاج، وعلى إثر ذلك نقلته مروحية إلى الأردن ومنها إلى مستشفى «بيرسي» بفرنسا وأعلن عن وفاته فى 11 نوفمبر 2004، ودُفن فى مبنى المقاطعة بمدينة رام الله بعد تشييع جثمانه فى مدينة القاهرة، وذلك بعد الرفض الشديد من قبل الحكومة الإسرائيلية لدفن عرفات فى مدينة القدس كما كانت رغبته قبل وفاته. يعتقد بعض الفلسطينيين أن «عرفات مات مسمومًا، ويقول طبيبه الخاص الدكتور أشرف الكردى إن وفاة عرفات نتجت عن تسميمه، وطالب بتشريح الجثة، مؤكدًا أن تحليل عينات الدم لا يكفى وحده للكشف عن الإصابة بالتسمم، مشيرا إلى أن الأمر فى حاجة إلى تشريح للجثة وتحليل عينات الأنسجة، للتأكد من السبب الحقيقى على وجه اليقين، فيما ترفض السيدة سها الطويل زوجة عرفات التصريح عن الأمر أو نشر التقارير التى حصلت عليها من مستشفى «بيرسي» الفرنسية حتى الآن.