لم يعد السؤال فى الأزمة القطرية الآن مُنصبًا حول الأمير الحالى تميم بن حمد، فقد أصبح الشاب الثلاثينى ونظامه السياسى جزءًا من الماضى نظريًا، منذ إعلان الدول العربية الأربع فى يونيو الماضى قطع علاقاتها الدبلوماسية معه، وبات الجميع ينتظر أن تأكل «دابة الأرض» م نسأة قاطن الديوان الأميرى فى الدوحة ليخر هاويًا، الحديث الآن يدور حول شكل النظام السياسى الجديد وطبيعة علاقاته الداخلية والخارجية وبنيته السياسية والاقتصادية. للإجابة على هذا التساؤل علينا أن نفهم أولاً خريطة القوى الاجتماعية والسياسية داخل الإمارة التى صارت مصدرًا للإزعاج وتصدير التوتر والقلاقل لجيرانها فى المنطقة، حتى وجدوا أن لاحل مع النظام الحاكم فيها إلا بالبتر. يبدأ كل شيء فى الخليج وينتهى عند حدود القبيلة، ومن لا يملك هذا المفتاح لا يستطيع فك طلاسم بعض الأحداث الحاصلة فى الأزمة القطرية من بدايتها، فلم تزل قيم المجتمع القبلى مسيطرة على جميع أفراد ومؤسسات تلك البقعة من العالم رغم تغلغل مظاهر الحداثة وامتلاك غالبية المواطنين هواتف تعمل بتقنية الجيلين الرابع والخامس، ومن هنا تعتبر السعودية اللاعب الأكثر تأثيرًا فى الداخل القطرى بسبب العوامل الديموغرافية وتشابك علاقات القبائل الممتدة داخل حدودها مع قطر. خريطة القوى السياسية والاجتماعية فى قطر يتكون المجتمع القطرى من عدة قبائل تضرب جذورها التاريخية فى منطقة شبه الجزيرة وبعضها له أصول فارسية، ثلاث من هذه القبائل القطرية ذات ثقل كبير ينعكس فى معادلة السلطة فى الدولة، وهى «آل مرة» و«الهواجر» و«آل ثاني» التى ينتمى إليها تميم بن حمد، بالإضافة إلى عدة قبائل أخرى ليس لها وزن كبير فى معادلة السلطة مثل «البورميحي» و«سليطة» و«المنانعة» و«البوكوارة» وغيرها. تُعتبر قبيلة «آل مرة» صاحبة النصيب الأكبر من عدد السكان وامتدادها لا يقتصر على قطر وحدها بل تتوزع بين كل من السعودية واليمن والكويت والبحرين وعُمان، وهى تسيطر على مناصب مهمة فى الدولة، منها قيادة القوات المسلحة والنائب العام، غير أن تمثيلها فى معادلة السلطة لا يناسب وزنها فى المجتمع لأسباب تتعلق بضعف مستوى التعليم وأسباب أخري. إلى «آل مرة» ينتمى الشيخ طالب بن لاهوم بن شريم الذى أصدر الأمير تميم قبل أيام قرارًا بإسقاط الجنسية عنه.. والشيخ طالب هو شيخ قبيلة آل مرة فى الخليج ككل، وهو يقيم الآن فى السعودية، ولإسقاط الجنسية عنه سبب رئيسى وهو الاجتماع الذى عقده مع ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان عقب قرار المقاطعة وإبدائه تأييده للقرار العربي، ورفضه طلب النظام القطرى بمهاجمة الدول المقاطعة وتمسكه بموقفه. رغم إسقاط الجنسية عن شيخ القبيلة فى الخليج ككل وهى المرة الأولى فى تاريخ الدولة التى يتم فيها إسقاط الجنسية عن شيخ قبيلة، فإن «آل مرة» داخل قطر لاتزال تلتزم ضبط النفس، ولم تقُم بأى تحرُّك معادٍ للنظام الحاكم حتى الآن. ثانى القبائل القطرية الثلاث الأكثر قوة هى قبيلة «الهواجر» وهم أصهار تميم من زوجته الثانية، وقام شيوخ هذه القبيلة أيضًا بلقاء ولى العهد السعودى وأعربوا عن استنكارهم لما تقوم به قطر من دعم للإرهاب وتمويل الجماعات المسلحة ومحاولة زعزعة استقرار نظم الحكم فى المنطقة. ثالث القبائل وأكثرها نفوذًا هى قبيلة آل ثاني، وإليها ينتمى خليفة بن حمد ونجله وحفيده (الأمير الحالي)، وتضم هذه القبيلة بالإضافة إلى جناح خليفة جناحين آخرين وهما جناح الحاكم السابق أحمد بن على وإخوانه، ومنهم الشيخ عبدالله بن على الذى بدأ يرتب أوراقه لتولى السلطة عقب سقوط تميم، والجناح الثالث يمثله حمد بن جاسم رئيس الوزراء الأسبق والمحرك الرئيس للأمور داخل قصر الحكم فى الدوحة من خلف الستار سواء فى ولاية حمد بن خليفة أو ولده تميم. مطاريد المعارضة تستعد لخلافة تميم يُعتبر الجهر بالمعارضة فى الداخل القطرى واحدًا من المحرمات، بل يفوق فى تحريمه ترك الصلاة أو شرب الخمر، فى ظل نظام يمتلك سلطة توجيه التهم لأى شخص على الأراضى القطرية ثم يقوم بإسقاط الجنسية عنه أو سجنه أو منعه من السفر والتضييق عليه وفق أقل تقدير، مثلما حدث مع فواز بن أحمد آل عطية الذى انشق عن سياسات الحَمَدين منذ 1998 فتمت مضايقته وملاحقته والتسلط على أملاكه واستنزاف مشاريعه حتى سُجن فى عام 2009. استطاع بعض الشخصيات الهروب خارج قطر للإقامة فى السعودية أو فى بعض دول أوروبا، وعلى رأسهم يأتى الشيخ عبدالله بن خليفة، شقيق الحاكم السابق للولاية قبل انقلاب خليفة بن حمد عليه، وبخروجه للسعودية ومحاولته الوساطة لحل الأزمة بدأ يجمع التأييد القطرى والخليجى حوله، وهو يحظى بقبول قطري؛ سواء من أفراد الأسرة الحاكمة، أو من وجهاء قطر، كما يحظى بمكانة وترحيب لدى القاهرةوالرياض وأبوظبى والمنامة والكويت ومسقط، وغالبية العواصم العربية. وجدت دعوة الشيخ عبدالله بن على صدًى فى داخل الأسرة الحاكمة، إذ استجاب لها الشيخ سلطان بن سحيم من خلال البيان الذى دعا فيه إلى إنقاذ البلاد من الطريق الذى تسير فيه، وشبَّه القوات التركية فى الدوحة بالاحتلال الجديد، وتُمثل استجابة سلطان شارة البدء بالنسبة لشخصيات أخرى يتوقع أن تعلن مواقف مماثلة خلال أيام؛ خصوصًا بالنسبة لمن يعرفون أن أشهر معارك قطر العسكرية كانت ضد الاحتلال العثمانى واستطاعوا فيها تكبيد العثمانيين هزيمة تاريخية عام 1893 وهى الهزيمة التى أكدت للعالم أن انتهاء سيطرة العثمانيين على الخليج العربى قد أصبحت مسألة وقت. فى أوروبا توجد أكثر من شخصية معارضة قطرية، منهم على سبيل المثال «على آل دهنيم»، وهو معارض شيعى مقيم فى لندن، والشيخة «منى السليطي»، وتنتمى للقبيلة الحاكمة وشقيقة وزير الاتصالات القطري، إضافة إلى الشيخ «خالد الهيل»، وهو رجل أعمال أطلق مع مجموعة من الشباب القطريين الحركة الشبابية لإنقاذ قطر قبل عشر سنوات، وهو مقيم فى بريطانيا. آخر الوجوه المنشقة كان الناشط القطرى «محمد المري»، وهو وجه جديد من الشباب القطرى العربى الذى لم يركع لتنظيم الحَمَدَين ، وذكر فى رسالة مصورة بثها قبل ساعات أنه يعتزم تسليم الأممالمتحدة شكوى رسمية ضد سلطات الدوحة بسبب الأساليب القمعية التى تنتهجها ضد المعارضين؛ خصوصًا من أبناء قبيلة «آل مرة». الرياض تجرى ترتيبات ما بعد الفتى الطائش بالعودة إلى ترتيبات ما بعد تميم، يمكننا القول إن السعودية، وهى اللاعب الأهم فى هذا الملف، حددت من هو الأمير القطرى المقبل، غير أنها تريد أن يأتى إخراج عملية انتقال السلطة سلميًا وأن يبقى الملف شأنا قطريًا منعًا لأى تصدعات مماثلة فى أى من نظم الحكم فى الخليج. بقى لنا الآن أن نعرف كيف يفكر عبدالله آل ثانى فى الملفات السياسية والاقتصادية، بوصفه الأمير المنتظر، الذى يجرى العمل على قدم وساق فى عدد من العواصم العربية والغربية على قراءة رؤيته لمستقبل الأوضاع فى الإمارة الشاردة. وتقول المعلومات التى حصلنا عليها إن الشيخ عبدالله طرح تصورًا كاملاً لنظام الحكم الجديد خلال المناقشات التى جرت معه على مدار الأيام القليلة الماضية. فى الملف السياسي؛ يفكر عبدالله فى إحداث نقلة طالما تحدَّث عنها الأمير القطرى الحالى ووالده دون تنفيذها، وهى إقرار نظام نيابى ديمقراطى يقوم على الانتخابات، ولا مانع لديه من إقامة نظام حزبى بسيط لتتحول الدولة من النظام الحالى إلى الملكية الدستورية، كما أنه طرح على المقربين منه فكرة الاستعانة ببعض من يحملون الجنسية القطرية مع جنسيات أخرى كالسعودية والمصرية فى مناصب وزارية. خطة عاجلة لإنقاذ الدوحة من شبح الإفلاس أمَّا بالنسبة للملفات الاقتصادية فقد أجرى الشيخ عبدالله عدة مناقشات مع عدد من بيوت الخبرة المالية الأكبر فى العالم؛ لوضع تلافى الأضرار التى قد تنجم عن عملية انتقال السلطة لاحقًا. ويقول إيهاب سمرة استشارى التمويل ورئيس اللجنة الاقتصادية بحزب المصريين الأحرار، إن قطر أسست صندوقًا سياديًا منذ عام 2000 هو تابع للدولة شكليًا لكنه من الناحية الفعلية خاضع لسيطرة شخص الحاكم، وبالتالى فإن الأموال المودعة فيه غير مضمون بقاؤها مِلكًا للشعب القطري. ويضيف سمرة إن عبدالله بن على راح يتفق مع كبار المصرفيين حول العالم على التخلى عن جزء من الأموال القطرية نظير رد هذه الأموال له عند وصوله للسلطة، وهو ما يُسمى بعملية «انكماش طوعى للأصول» بموقفها يضمن عدم استيلاء المصارف على النسبة الأكبر من الأموال بدعوى «فترة الريبة». ولفت سمرة الى أن الصيارفة الدوليين يهمهم إطالة فترة الريبة قبل سقوط النظام القطرى حتى يستحوذوا على النصيب الأكبر من الأموال، وقال إن الشيخ عبدالله يتفاوض معهم لإجراء عملية «صلح واقٍ من الإفلاس»، لضمان عدم تكرار السيناريوهات المشابهة التى حدثت عند انتقال السلطة من جد تميم إلى والده حمد بن خليفة.