ليس الحوار مع المطران كريكور أوغسطينوس كوسا أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك والزعيم للطائفة فى القارة الإفريقية، نزهة هادئة فالرجل مثقف يفكر طويلاً قبل أن يتكلم، ينتمى إلى مصر ويعتز بمواطنته، من دون أن يشعر بأزمة هوية فهو من أصول أرمينية، وهو كاثوليكي، لكنه مصرى القلب والقالب، يتأثر بالثقافة الإسلامية باعتبارها مكوناً حضارياً مصرياً، وتدخل كل هذه المكونات فى نسيجه الثقافي، بلا تعارض، بل هى أشبه ما تكون بالتقاء روافد النهر فى أرض خصبة. يقول: إن الأرمن فى مصر ليسوا وافدين عليها، فقد بدأت الهجرات الأرمينية إلى مصر فى القرن الثامن الميلادي، ومنذ ذلك التاريخ البعيد لم تتوقف هجراتهم فردياً وجماعياً. وشهدت عمليات الهجرة مداً فى القرن الثانى عشر والسادس عشر والعشرين الذى تزامن مع مذابح الأتراك لهم، وعندئذ وقفت مصر معهم موقفاً إنسانياً وإخلاقياً، حيث دعا الأزهر الشريف إلى استقبالهم، وطالب الزعيم سعد زغلول بإغاثتهم. والحقيقة أن الأرمن وجدوا فى مصر بيئة حاضنة، فتمصروا بمنتهى السرعة، وانصهروا فى بوتقة مجتمع عبقري، يأخذ من الثقافات جميعها، ويؤثر ويتأثر من دون أن يتخلى عن هويته. ولماذا انخفض عدد الأرمن الآن إلى ما نحو 12 ألفاً؟ - لظروف منها الهجرة بسبب التأميم والأزمات الاقتصادية وأيضاً نتيجة الحروب التى وقعت بين البلاد العربية وإسرائيل. فى مرحلة ما كانت البيئة طاردة، ومعظم الذين هاجروا من مصر مازالوا يكنون لها الحب، بل إن بعضهم أورث الحب لأبنائه الذين يزورون مصر من حين لآخر. هل اقترن «عام الإخوان» بزيادة فى موجات الهجرة للخارج؟ - إطلاقاً.. كان لدينا إيمان وأمل بأن الشمس ستشرق، نحن مرتبطون بمصر والأرمنى يقول إن له رئتين، واحدة أرمينية والثانية مصرية. مر على رسامتك نحو 10 سنوات مرت خلالها مصر بمتغيرات كثيرة كيف تقيم ما يحدث الآن؟ - لدى شعور بأن القادم أحسن، وأنا دائماً أردد وصايا السيد المسيح بألا نيأس، مصر تسير على الطريق الصحيح، وهناك إنجازات تحققت، والأمل كبير فى أن يحفظ الله مصر من أعدائها. يحيى الأرمن خلال الأسابيع المقبلة مئوية مذابح الأتراك، هل ترى الاهتمام العالمى بالحدث فى حجم أهميته؟ - إلى حد لا بأس به، لكن أى تعاطف قياساً بحجم المأساة لا يعدو شيئاً. فى مصر هناك انخفاض فى وعى الشعب بحقيقة ما تعرض له الأرمن من مجازر راح أكثر من مليون ونصف المليون ضحايا لها، وهذا يرجع إلى تقصيرنا نحن فى دعم قضيتنا، والوضع فى الغرب أفضل نسبياً. فى الواقع أن الأرمن لم يهتموا كثيراً بتعريف المجتمعات التى عاشوا فيها بقضيتهم العادلة، فقد كان الاهتمام الأول بالعمل والاندماج حتى لا نكون عالة على الدول التى فتحت لنا أحضانها، شعارنا أن الإخلاص للبلاد التى تحتضن المشردين يجب أن يكون أولاً، هذا الأمر حدث فى الشرق الأوسط، وفى أمريكا وأوروبا، منذ البداية أردنا الانفتاح على العالم حتى نستفيد من ثقافته ونؤثر فيه بثقافتنا ولذلك ستجدين كثيراً من الكتب باللغة الأرمينية ترجمت إلى العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية. لكن العام الجارى ثمة اهتمام مصرى بإبراز حقيقة مذابح الأرمن على أيادى الأتراك؟ - هناك خلاف سياسى بين مصر وتركيا، والقطاع الأكبر من المصريين رأوا حقيقة الأتراك، هذا ربما دفعهم إلى البحث فى تاريخهم. الخلاف بين مصر وتركيا ليس خلافاً على مرجعية عزل محمد مرسى فحسب، فهناك خلاف فى نسيج الثقافة والطبيعة الحضارية للمجتمعين، مصر بلد وادع، يستقبل المشردين ويغيثهم، وليس غريباً أن يفتح أبوابه وقلبه للسيد المسيح حين هرب «هيردوس» الإمبراطور الرومانى الذى أراد قتله، أما العثمانيون فقد كتبوا تاريخهم بالدماء. كيف تنظر لسيناريو القضية السورية الراهن والمستقبلي؟ - ما يتعرض له السوريون يمثل استنساخاً لما تعرض له الأرمن، لقد تعذبنا مائة عام، ووقتها لم يحرك العالم ساكناً، ربما لأن عدم وجود وسائل إعلام قد أسهم فى التغطية على الجرائم، أما الآن فالغريب أن العالم يرى ويسمع لكنه لا يتكلم، وربما يتواطأ. إن ما يتعرض له السوريون يمثل طعنة فى قلب مبادئ حقوق الإنسان، ويكشف عن أن مصالح الكبار تتاجر بدماء الأبرياء، ويتلاعبون بالشعوب كالعرائس على مسرح السياسة. وبالنسبة للأرمن فى حلب، حتى الآن متمسكون بأرضهم، لا يريدون مغادرتها، يفضلون الموت فى بلدهم شهداء، على أن يصبحوا آلات إنتاجية فى الدول الغريبة. لكن «داعش» يكن للمسيحيين العداء؟ - التنظيم الإرهابى يكن للبشرية بأسرها العداء، إنهم يذبحون كل من خرج عنهم، ولا يدركون أن الأديان كلها تقوم على الرحمة والمحبة، فالعداء لنا ليس استثناء، وليس عداءً خاصاً. ظهور هذه التنظيمات فى العالم العربى يمثل لى لغزاً كبيراً، فالمنطقة لم تشهد فى تاريخها هذه الأفكار المتطرفة، إلا نادرا،ً والناس ليسوا طائفيين بحكم أن الشرق مهد الأديان، كما أنه بطبيعته حالم، هنا ليس يسعنى إلا أن أفكر فى المؤامرة التى تقف وراء هذه الأفكار.. هناك بالطبع من يريد أن يفخخ المنطقة من الداخل. هل يمكن أن تكون «داعش» سببا فى موجات هجرة كبرى تفرغ الشرق من المسيحيين؟ - هذا مستحيل، ربما تحدث هجرات محدودة، لكن تفريغ الشرق من المكون الحضارى الإنسانى المسيحى ليس ممكنا، هذه المنطقة ستبقى نموذجا للتعايش بين الأديان، و«داعش» مجرد قصة قصيرة ستنتهى لا محالة. إن اللغة السريانية لغة رسمية فى سوريا ولبنان، فهل يمكن لتنظيم لا يعرف إلا قطع الرؤوس أن يستأصل مكونا ثقافيا متينا مثل السريانية؟ لو أن الشرق أصبح مفرغا من المسيحية لما كان الشرق شرقا، سيتحول إلى مسخ حضارى لا قيمة له.. إن المسيحيين لهم نتاجهم الحضارى والعلمى والثقافى والأدبي.. تخيل مصر مثلا من دون مجدى يعقوب ويونان لبيب ويوسف شاهين ويوسف فرانسيس.. هل يفكر إنسان فى أن هؤلاء مسيحيون. هم مصريون فحسب، جزء من نسيج الوطن كالمسلمين سواسية. ونحن نعيش سويا بقلب واحد وروح واحدة وإيمان واحد ونرى فى هذه الأيام كل هذا القتل والتدمير ليس فقط للمسيحيين ولكن للمسلمين فكم من المساجد تفجرت؟ وكم من القبور تهدمت؟ نحن نحب السلام ووصية السيد المسيح كما يقول لنا أحبوا بعضكم بعضا فإذا خلا الشرق من المسيحيين فأنا أقول لك سلاما على هذا الشرق لأن البقية الباقية سوف تتقاتل. بالعودة إلى مئوية المذابح هل تحب أن توجه كلمة عنها للمصريين؟ - الدوافع الحقيقية كانت لاعتلاء الأرمن أكبر وأعلى المناصب فى الدولة العثمانية وعندما رأى الأتراك ذلك دخل فى قلوبهم البغض والغيرة وبدأوا يخططون لإبادتنا لدرجة أن أحد الأتراك قال: سنبيد الأرمن لكنى أريد أن آخذ أرمينياً واحداً لأضعه فى المتحف وأقول يوما ما كان هناك فى قديم الزمان شعب يسمى الأرمن. والآن ما يحدث هو تكرار لما حدث فى الماضى كانوا ضد الأرمن واليوم هم ضد جيرانهم العرب لأن ثقافة التركى هى القتل وتدمير البلاد والأخلاق. حاليا هناك أصوات تركية عاقلة تتعاطف معنا، العام الماضى كنت فى تركيا والتقيت بالأرمن هناك وسمعت منهم أن أتراكا يقولون لهم بأنهم يخجلون مما فعله أجدادهم بهم فكل القصور والمبانى والمدارس التركية من تخطيط وبناء الأرمن وحتى هناك كتابات عليها توثق ذلك ولهذا السبب صدر قرار منذ عدة سنوات بإزالة تلك الكتابات، لطمس بصمات الأرمن لكن إذا أنكر الإنسان وكذب اللسان فالحجارة تنطق واليوم داعش تعيد الماضى بإزالة الآيات وحرق الإنجيل وهدم دور العبادة والمدارس. ما حدود علاقتكم بشيخ الأزهر؟ - هناك علاقة صداقة قوية تجمعنا بالإضافة إلى زيارات متبادلة فى أعيادنا والأعياد الإسلامية وحتى القومية، وهناك مقترح لأن يكون التاسع من ديسمبر يوما عالميا للأرمن، نعيد فيه ذكرى المذابح، وفى حال حدث ذلك فإننا سنحاول التواصل مع شيخ الأزهر ليشرفنا بحضوره فى الافتتاحية.