تجاوز ملالى إيران كل الحدود برسالتهم التى أرسلوها لحليفهم فى قصر الاتحادية يدعونه إلى ضرورة تبنى تعاليم الخمينى وتنفيذ ولاية الفقيه فى بناء الدولة المصرية، ويبدو أن الرسالة رفيعة المستوى، خاصة أن من بين الموقعين عليها مستشارى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية.. كل هذا كان غريبًا أن يتزامن مع صراعات وخناقات الذين يدعون على أنفسهم أنهم «أهل الله» من الإخوان والسلفيين! فعندما دخل الدين للسياسة وانقلبت السياسة دينًا، أُبيحت المحرمات وارتكبت الكبائر، وتزايدت الدسائس والوشايات، خلط السياسة بالدين، منذ ما بعد حكم الخلفاء الأربعة فى الجزيرة العربية، وحتى تأسيس الإخوان المسلمين فى الإسماعيلية، كان سببًا فى انتحار أنظمة الحكم باسم الله على حد السيوف.
كانت الحكومات الدينية ذريعة للتسلط باسم الله، وفى الجبروت، بالصلاة على رسول الله.. وفى التمييز والتفرقة، باسم كتاب الله، غلفت الحكومات الدينية نفسها بسياج عال من مزاعم الدعوة إلى الله، فحفزت هرمونات الديكتاتورية لدى الولاة المسلمين، وأمراء المؤمنين.. فكان صداما مع المجتمعات!
سأل عمر بن الخطاب ابن عباس- رضى الله عنهما: فيما يختلف المسلمون من بعدنا؟
قال ابن عباس: سيأتى قوم يقرأون القرآن، فيئولونه، ثم يختلفون فيما أولوا.. ثم يقتلون فيما اختلفوا فيه.
وهو ما حدث، فلم يأمر كتاب الله أن يقتل الأمويون أحفاد رسول الله، باسم دين الله، ولا أباح الله للعباسيين أعراض المسلمين فى البلاد المفتوحة، ليتخذوهم «خولا»- يعنى عبيدًا- يفعلون بهم ما شاءوا، وقتما شاءوا، إحياء لذكرى رسول الله.
لم يكتب الله «حكما شمولياً» على عباده فى الكتاب، فلا خلق أمراء المؤمنين من فخار، بينما خلق باقى المسلمين من مارج من نار، ليضع أمراء المؤمنين بينهم وبين باقى المسلمين كتاب الله فى المنتصف، يدعون من شاءوا ويمنعون من أرادوا. إصرار «الحكومات الدينية» على التقرب إلى الله بطريقتهم المريضة، فتح طوال التاريخ الإسلامى طرقًا للقتل والنهب، واستباحة الأعراض أحيانًا، بينما أحيانًا أخرى، كان ذريعة لتزوير الانتخابات، وشراء الأصوات وتكفير المحتجين، وشحن البسطاء فى الأتوبيسات إلى لجان التصويت.. ثم محاصرة المحكمة الدستورية، مخافة القانون، لإقرار دستور، يكون أبا للقانون!
غط طالبو حكم الله، فى الديكتاتورية والاضطراب، وحب الذات، ورفض الآخر، ورغم أنهم وصفوا أنفسهم ب«أهل الله» طالبى «حاكمية الله»، إلا أن أكثرهم فى ضلال مبين.
عام 1948 وصف أحمد السكرى وكيل الإخوان المسلمين فى مقالات بجريدة الوفد «الجماعة» ب«الديكتاتورية فى أعنف صورها».. قال إنهم يرفضون الآخر، وإن تمسك قياداتهم بالحريات والدعوة إلى الإصلاح، وسيلة للسيطرة باللين حتى التمكين. فصل البنا السكرى من الإخوان لخلاف فى الرأى- رحم الله الإمام الشهيد البنا-.. كان ديكتاتورًا بامتياز، فصل أيضًا مندوب نشر الدعوة مصطفى نعينع، بعد خلاف فى وجهات النظر، فكتب نعينع هو الآخر رسالة للبنا من خلال الوفد أيضا قال فيها: «تعلمنا الإسلام معًا تحت لواء دعوة رسول الله وعلمناه للناس.. طلعت جريدة الإخوان تحمل نبأ فصلى من دعوتى التى ربيت فيها.. إننى أتحداكم بعد أن أكلتم لحمى أمام إخوانى أن تذكروا لهذا الإجراء مبررًا.. اللهم إلا أنى وقفت منكم موقف المستفسر المتسائل، فلم يكن جوابكم إلا الغموض.. ثم فصلى».
ويكمل: «سألتك عن هذا السيف المسلط على قوم تجمعوا لله، وجاهدوا فى سبيله، لتقطع حبل الله المتين. وها هى البراهين تثبت ما ارتكبه عبدالحكيم عابدين «أحد قياديى الإخوان وصهر البنا» من آثام اعترف بها واعترفت أنت بها فأبقيته، وضحيت برجال الدعوة الأخيار.. هل هذه هى الأمانة؟ هل هذا هو الدين الخالص والخلق الذى تدعو الناس إليه؟».
ثم يسأل نعينع البنا: «هل اعتراضنا على هذه المآسى، وموالاة الفجار، والتنكيل بالأحرار، وعلى الدكتاتورية البغيضة، يجازى صاحبه بالفعل دون محاكمة ولا تحكيم؟»، وينهى رسالته بقوله: «سأسير مع إخوانى الأطهار الذين أبت ديكتاتوريتك إلا أن تشرفنى باللحاق بهم».
أظهرت السياسة «كوارث» فى حكومات وأنظمة، وجماعات «أهل الله» كانت الدعوات إلى «شرع الله»، فى الغالب صراعا على الدنيا، لا على الدين وعلى الحكم، لا دفاعًا عن الإسلام.
لكن، لم نتعلم من التاريخ، ولا مارسناه، عشر ما مارسنا كرة القدم، والطاولة على المقاهى، لم تعتبر جماعات الإسلام السياسى هى الأخرى بالتاريخ، فلم يتعاطوه إلا فخرًا فى خطب الجمعة، مثلما لم يدرسوا الجغرافيا إلا صراعًا على الحدود، ونزاعًا على آبار البترول، وتهريب الأسلحة عبر الأنفاق مع السولار.
بعد سنوات قليلة من وفاة النبى- صلى الله عليه وسلم- أرغم الخوارج على بن أبى طالب- رضى الله عنه- على الاستجابة لدعوة معاوية وعمرو بن العاص بتحكيم القرآن فى الصراع على الخلافة، ولما لعبت السياسة بابن العاص ومعاوية، فلعبا بالمسلمين، خرج أصحاب الحاكمية على على- رضى الله عنه- غاضبين من قبوله التحكيم، وحشدوا لقتاله، بدعوى أنهم وحدهم «أهل الله»، اخرجوا ابن عم رسول الله من الملة والدين!
يحكى «الدينورى» أن بعض الخوارج، قطعوا طريق الصحابى عبدالله بن خباب- رضى الله عنه- ولم يعرفوه، فسألوه: مسلم؟ قال: نعم. قالوا: من أحق بالخلافة.. على أم معاوية؟ فأجاب: يفصل الله بينهما، فقتلوه وامرأته، امتثالاً لقول الله تعالى: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله».
فقد ظنوا أن ابن خباب نصير لعلى!
ثم قابلوا «واصل بن عطاء»، وكان حاد الذكاء، فلما سألوه: قال: إنما أنا مشرك فأجيرونى، فأكرموه، وقرأوا عليه القرآن، وأهدوه خيلا، قبل إرسال حرس معه فى سفره، امتثالاً لقوله تعالى: «وإن أحد من المشركين استجارك، فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه»!
لم تمنع الرغبة المحمومة فى الحكومة، والسلطة، من تحويل الدين، إلى ما ليس فيه، حتى لو قتل «أهل الله»، صاحب رسول الله، بينما يطلقون «المشرك» فى حراستهم! عادة ما يتغير لون مداد تاريخ «الخلافات الإسلامية» من لون «الدعوة» إلى ألوان الديكتاتورية، والنزاع، حتى القتل على المذهب، ثم لا ضير من الاستبعاد والاستعباد، ولا أزمة فى نفى الأبرياء.
صاحب فتوى قتل البرادعى، وحمدين صباحى بتهمة الحرابة مثال. قال إن الحرابة حكم قرآنى، ورد على الهجوم، بأن «العلمانيين» لا يعلمون.
حجة «العلمانيين» خدعة وانكشفت، فالخلاف، ليس فى حجية آية الحرابة، إنما على من قاس حكم القرآن، على جبهة الإنقاذ، فجعل قتل المعارضين أمرًا ربانيًا! لا نعلم أنه نزل فى البرادعى قرآن، ولا أحاديث نبوية فى التيار الشعبى تخرج أعضاءه من الدين، لم يحرم الإسلام «الجبنة النستو» ولا تداول الفقه ما يوجب منع الشيدر فى دار الإسلام، شرع الله الإسلام، لصلاح المجتمعات، لا للإفتاء بالقتل، واستباحة الرؤوس، ردا على غليان الشارع، أو رغبة فى حماية القصر الجمهورى. انقلاب الدعاة إلى الله لطغاة، وإظهار المتجبرين لينا، حتى يستحوذوا، ورقة حتى يتسيدوا.. عادة تاريخية، لا دين ولا يحزنون، روى السيوطى أن أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان هدد معارضيه، بعد توليه الخلافة بأن من سيذكره بتقوى الله.. سيقطع رقبته!
سيرة «عبدالملك» قبل خلافته، مخالفة تماما لسيرته بعد ولايته، فقد اشتهر قبل الخلافة، بالفقه والتدين، والصدق ورقة القلب، قال نافع: «ما رأيت بالمدينة شابًا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبدالملك بن مروان». وقال أبو الزناد: «فقهاء المدينة أربعة: سعيد ابن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة ابن ذؤيب وعبدالملك بن مروان».
لكن لما لعبت السياسة بعبدالملك حولته إلى ديكتاتور، فجاءه خبر وفاة أبيه، وأنه أصبح الخليفة، وهو يقرأ المصحف، فأغلقه وقال: «هذا آخر عهدى بك»!
وقبل وفاته أوصى عبدالملك ابنه الوليد قال: «إن مت فادع الناس إلى بيعتك، فمن قال برأسه هكذا، فقل بسيفك هكذا»، وقال: «البس جلد النمر، وشمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه «عارض»، فاضرب عنقه، ومن سكت.. مات بغيظه»!
حكم الأمويون المسلمين، باسم الله، ووصف خلفاؤهم أنفسهم ب«أهل الله»، لكنهم رغم ذلك لم يمتنعوا عن قتل المعارضين، وقلب الحقائق، وفتح المعتقلات للمسلمين.
وكأن الدعوة إلى الله «لبانة» لتغيير مشاهد الدم، مثلما يغير اللبان من طعم الفم، قتل الأمويون المسلمين باسم الله، ثم جاء العباسيون، فذبحوا الأمويين باسم الله أيضا، ولما جاء الفاطميون.. وعدوا بكتاب الله، ثم قطعوا أرجل المعارضين وأيديهم من خلاف، بآيات الله هم أيضا!
ولما نبش العباسيون، قبور الأمويين، وقتلوا أطفالهم، واغتصبوا نساءهم، وهدموا مساجدهم، كان جيش الخليفة العباسى يرفع رايات مكتوبا عليها: «لا إله إلا الله».
ولما وصل رأس الخليفة مروان، مقطوعًا للخليفة العباسى «السفاح»، وضعه على الأرض، وسجد شكرًا، فلما نبهه بعضهم، أنه لا يليق بأمير المؤمنين التمثيل بالجثث.. ضحك قائلاً: إنها صلاة الجنازة!