احمد غيطاس وهى لا تكاد تصدق أنها نجحت فى تحطيم بوابة، كانت ترصد أمامها السبيل إلى مستقبل، ظلت تحلم به طويلا. وما أشق الطريق إلى مجرد التمهيد إلى صياغة هذا المستقبل. إن مرحلة التوافق على الأسس التى ندق بها على باب المستقبل، تختلط مع الانشغال بإزالة الأوضاع والمؤسسات والشخصيات، التى ارتبطت واستفادت وقاتلت لاستمرار النظام السابق. وهل هذه مهمة سهلة؟ ولكن نهرا من الرغبة فى العطاء والبذل، تتدفق مياهه من قلوب المصريين، مستعد للإسهام والمشاركة، فى تحقيق الأحلام، التى وئدت طويلا، بسياط التجاهل والجهل، واستبعاد المواهب والأكفاء والقادرين بلاهوادة. إن جيشا من الشباب، وغير الشباب يسارع إلى تلبية نداء الواجب، وفعل ما يعتقد أنه مطلوب منه، باندفاع وتوثب، ودون انتظار مقابل. والبدايات على هذا الطريق كثيرة ومبشرة وفى أكثر من مكان. والمطلوب أن تستمر وينميها الشباب وغير الشباب بأنفسهم، ويساندهم الجميع، وتتخلص فى كل خطوة، من مثالب الماضى، التى تتبدى فى قصر النفس وعدم المثابرة والوقوف فى منتصف الطريق، والعجز عن ابتكار المؤسسات والآليات التى تضمن الاستمرار، وفرز المتسلقين وكدابى الزفة ونهازى الفرص. مطلوب منا، تعقب كل البذور، التى تنبت فى تربة هذه الأيام العاصفة، ونتطلع إلى بناء مصر جديدة، وحمايتها والمحافظة عليها ومساعدتها على الازدهار. حين طلب منا شاب يافع منذ بضعة أيام، فى إحدى محطات المترو وكانت مهمته تنظيم الصعود والنزول من أبواب القطار، أن ننزل من باب النزول، ونترك باب الصعود للقادمين، وطلب هذا بأدب ورجاء. نظرت إليه باندهاش وفرح طالما حلمت بهذا المشهد.. أنا أشهد المواطنين يتقاتلون على الأبواب ويتصادمون ويتصارعون مع أن مجرد الالتزام بالطابور والنظام يوفر الوقت والجهد والطاقة وكنت أحلم دائما لو كنت مسئولا عن إدارة المترو، لبحثت عن متطوعين لتنظيم الركوب والنزول.. وسأجد منهم عشرات. هذا المشهد الذى يبدو بسيطا، هو الذى يشير إلى الإمكانيات الدقيقة فى أعماقنا. وهو مثل على البذور التى سوف تورق فى حياتنا. وأبناؤنا الذين يتنادون، لتنظيف شوارعهم، ودهان الحوائط، ووضع صناديق القمامة، يشيرون إلى مثل آخر. وهى نشاطات تحفز التطوير، وتحديد المهام، ورسم حدود العلاقات، بين القائمين على العمل وبين المسئولين عن مراقبة المحافظة على جودة الأداء والإتقان والقيام بالواجب. د ابراهيم السيسى وشبين القناطر ومتابعة لهذه الأمثلة قضيت يوما هذا الأسبوع فى مدينة شبين القناطر، التابعة لمحافظة القليوبية، والقريبة من القاهرة بمبادرة من الأستاذ لويس جريس ودعوة من المستشار عمر مروان ومع اللجنة الشعبية بالمدينة، التى انبثقت أثناء ثورة يناير، وهى تناقش الإنجازات التى تمت وكيفية تطويرها. ويرأس اللجنة والذى سارع بجمع صفوفها المستشار الجليل عمر مروان وهو ابن شبين القناطر، ويشغل حاليا موقع أمين لجنة تقصى الحقائق فى أحداث ميدان التحرير وقتل المتظاهرين ثم ترك رجال الشرطة لمواقع عملهم. وكان الحوار الطويل خلال هذا اليوم المثير، مع أبناء المدينة من أعضاء اللجنة، فرصة مفيدة، للتعرف على جانب من جوانب النشاط السياسى فى هذه المرحلة الحساسة من تاريخ مصر المعاصر. ورغم أن الشعور العام، لدى أعضاء اللجنة، أن مهمتهم ترتبط أساسا، بلحظات الخطر، التى تحدته قدرة المصريين وصلابتهم، فى مواجهة سقوط أجهزة الأمن، والانفلات الذى تلاها، وأنهم تاركون المجال لأصحابه، عند عودة جهاز الشرطة لنشاطه، ودوران عجلة العمل، وحركة النشاط إلى طبيعتها. فإن إحساسا يتنامى بين المشاركين، إلى تطوير الزخم الذى انطلق من روح تلك اللحظة واستمرار رسالتها، بما يخدم ويدعم الأهداف والمعانى التى أطلقت ثورة يناير، وتهدف إلى تغيير الواقع الذى يئن منه الناس، وقاد إلى التدهور والانهيار والفشل العام الذى سرى فى كل مجالات الحياة. والذكريات والنقاشات التى دارت خلال اليوم، تثير مشاعر الفخر والاعتزاز بين كل الذين شاركوا فى المواجهات، وتبعث أملا قويا فى إمكانية تغيير كبير وشامل. إن قصة حماية بنك المدينة فى غارات الخارجين على القانون، ستظل ذكراها، تتردد طويلا، ودور الشيخ على أبوصالح فى احتضان الخزينة، وتأكيده لابنيه الواقفين أمام البنك، أن يمنعا المهاجمين ولو على جثثهما. ويبدى المستشار عمر مروان حزنه على الفشل فى إنقاذ مركز الشرطة من الحريق، وأن ذلك كان ممكنا، لولا تعدد المهام التى كان على أعضاء اللجنة القيام بها ويكمل: والحمد لله أننا أنقدنا مقر المحكمة من مصير مماثل، حيث أخبرنا أحد المواطنين أن هناك من ينوى إشعال النار فى المحكمة، بسبب بعض القضايا التى تخصهم، فسارع أعضاء اللجنة إلى الإحاطة باللجنة وحمايتها من الدمار. وسجل مثل هذه المآثر طويل، والأمثلة السابقة تكفى للإشارة إليها. والفيديو الذى صوره محمد الكومى - مخرج شاب - أثناء تلك الأيام، وفيه لقطات عن الأسلحة التى تمت استعادتها، تشير إلى حجم الجهد الكبير.. وأحسن صنعا أنه لم ينس الإشادة بجهود ضباط القوات المسلحة الذين طاردوا السارقين، وذكر أسماء العقيد أسامة والرائد وسام والنقيب محمود، الذين تابعهم وهم يدخلون البيوت بحثا عن المجرمين. ومعهم حق، لقد كانوا جميعا، أثناء جلسة الاستراحة، يتعجبون من الإمكانيات التى اكتشفوها فى بعضهم البعض. وعندما تطرق الحديث إلى المستقبل، الذى يجب أن ينبثق من رحم الحاضر فإن المتابع إلى حوارات هذه العينة غير الكبيرة من المتحدثين، يلمس الحاجة الكبيرة إلى وقت كاف، وسعة صدر، وقدرة على تفهم وتقبل وجهات النظر من أجل صياغة توافق أو توافقات مشتركة، كما بدا من وجهات النظر المختلفة التالية: فالمستشار بكر مروان، يركز على إسرائيل والصهيونية وخطتها الجهنمية، للتحكم فى المنطقة ويرى أن المفتاح لفهم دور إسرائيل، هو القراءة الدقيقة لكتاب بروتوكولات حكماء صهيون، والذى يعيد هو قراءته هذه الأيام، بل ويحفظ منه فقرات كاملة. وطبعا ليس هنا مجال الحديث عن هذا الكتاب المشبوه، الذى تخلص المثقفون العرب لحسن الحظ من الإشارة إليه عند حديثهم عن أشكال المقاومة أو أهداف إسرائيل وأطنب مهندس متحمس مؤكدا أن ما ينقصنا هو نبذ الانحلال والتمسك بالأخلاق، وأنه حزين لأن هناك محاولة لاستغلال الفرصة الحالية من جانب الفنانين الإباحيين، فى نشر الإباحية، ومشاهد العرى والتوسع فى الدعارة الجنسية، وهو ما يجب أن نعمل على وقف تياره. أما الحاج سيد الوكيل، وهو جزار كبير فيرى أن اقتلاع الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، هى المهمة الأولى بالتركيز ويتمنى أن يتم استجواب المخبرين الذين يعرفهم بالاسم، والذين كانوا يفرضون على المواطنين شبه إتاوات وأنه مستعد للشهادة ضدهم ومواجهتهم. وأدار الحاج أحمد خطبة الجمعة يومها، حول موضوع «بين أخلاق الميدان «يقصد التحرير» وأخلاق الإسلام التى يراها بالطبع أشمل وفيها حبل النجاة. والشاعر مسعود شومان - ابن شبين القناطر - أوضح أن المصريين جميعا يدعمون هذه الثورة، وأن تهمة الثورة المضادة يجب أن يتم توجيهها إلى القلة القليلة التى تعمل على إجهاض الثورة أو سرقتها. واكتفى بهذا التلخيص، وأسماء الحاج محمد الصعيدى وكمال الصفتى وإبراهيم السيسى وأحمد غيطاس ومحمد سليم وعادل قنديل وفريد بركات، هم نماذج للعشرات والمئات الذين هم على استعداد للإسهام والمشاركة. تطوير الثورة إن أعظم وأثمن ما تمخضت عنه الأيام التى بدأت فى 25 يناير، هو انبثاق هذه الروح البناءة من قلوب المصريين. وفى الوقت الذى يمكن أن نرى فيه من يخططون فقط لوراثة النظام السابق فإن الأغلبية الصامتة، تتوق إلى بناء مصر، غير تلك التى خارت قواها، خلال العقود الماضية مصر المدينة التى تبدع مؤسسات تؤمن المواطنة والمشاركة وحقوق الإنسان. روح العطاء والمشاركة والبناء هى ما يجب علينا الإمساك بها والعض عليها بالنواجز هذا هو الخيط الذى يجب أن نفلته من أيدينا. إن الفجر الذى انبلج مع 25 يناير، ينتظر تطويره إلى ثورة، ثورة حقيقية وشاملة وعميقة، تغير وجه المجتمع المصرى، وتضع الأمور فى نصابها، وتبعث القوى الحية الغافية إلى ساحة المشاركة، لنؤسس تعليما حقيقيا، واستعادة طبقة متوسطة تتسع صفوفها حاملة لمشاعل التنوير والتحرر، مواطنا يطمئن فى كل خطوة أن مناط الحكم فى أى مجال هو للكفاءة والجدارة. وهذا لن يتم بين يوم وليلة ولن تأتى هدية من السماء. ويجب ألا يتوقف الحوار بين قوى المجتمع المدنى بكل أطيافها، حوار ليس للحوار، ولكن بهدف التوافق على أرضية مشتركة. إن إسقاط حسنى مبارك خطوة هائلة لتمهيد الطريق إلى مجتمع جديد. ولكن خلخلة النظام الذى أقامه أو استند إليه، مهمة هائلة وطويلة وشاقة.