أحببت غلاف مجلة «صباح الخير» العدد الماضى الذى احتوى على صورة مؤسس فرقة رضا للفنون الشعبية الفنان الكبير محمود رضا نقلًا عن مشهد فى فيلم غرام فى الكرنك (1967)، بريشة الفنان عبدالرحمن أبوبكر. وقد واكب صدور العدد انتشار فيديو على الفيسبوك للفنان محمود رضا (89 سنة) وهو يرقص مع فرقة رضا الحالية فى إحدى الحفلات. أحسست كأن شغف وحب المسرح والرقص قد مس قلبه وجسده فصار شابًا يافعًا تدق رجليه المسرح فيدور العالم حوله فى أقل من دقيقة هى زمن ظهوره على المسرح. استطاعت فرقة رضا التى أسسها محمود رضا وعلى رضا فى خمسينيات القرن العشرين أن تسدى صنيعًا كبيرا للوجدان الجمعى المصري، عندما بحثت فى كل بقعة مصرية عن رقصتها وأغنيتها وموسيقاها وملابسها المميزة لتجسدها فى صورة مشاهد وحكايات راقصة حافظت على التراث فى إطار مبتكر وروح حديثة. عرفتنا فرقة رضا «ثقافة الرقص» فى النوبة والصعيد والدلتا وإسكندرية ومدن القناة .. إلخ. فالرقص يلخص لك قيم وثقافة المجتمع؛ مثل رقص التحطيب للرجال فى الصعيد المستمد من جذور الحضارة الفرعونية القديمة، والذى يحمل معانى النبل والشهامة والبطولة الشعبية...ورقص فلاحات الدلتا فى المناسبات والأفراح وما يحمله من عادات وتقاليد محافظة تجعل البنات يتحتفلن ويرقصن بمعزل عن الشباب..ودلع وانفتاح رقص شباب وشابات المناطق الساحلية.. والبهجة والصدق وحب النيل فى رقص وغناء شباب وشابات النوبة. استطاعت فرقة رضا بالرقص أن تعكس تراث وثقافة مصر التعددية التى لا نراها أحيانًا فى ظل مركزية القاهرة السياسية والثقافية وشخصيتها الطاغية، أو فى ظل نعرات نرجسية ترى مصر ذات هوية منفردة مستمدة من ماضٍ بعيد كان مزدهرًا؛ فمصر عند البعض ما هى إلا حضارة الفراعنة وعلمهم وحكمتهم، ومصريو اليوم ما هم إلا أحفادهم الذين لن يتقدموا إلا إذا استعادوا أمجاد أجدادهم!!...وهى عند البعض الآخر مصر القبطية التى حافظت على إيمانها المسيحى وحفظته فى كنائسها وأديرتها وقاومت به الإمبراطورية الرومانية التى كانت تحتل مصر فى القرون الميلادية الأولى، فشكلت بذلك بدايات الهوية القومية المصرية.. وهى لدى البعض مصر ذات الهوية الإسلامية الخالصة والتى يحلمون بعودتها إلى الخلافة الإسلامية فى زمنها السعيد حيث العدل والازدهار وحكم الدنيا بشرع الله.. ويقينًا هذه الهويات المنفردة ما هى إلا أحلام جميلة تجعل المصريين ينامون ملء الجفون، لكنها ليست حقائق تاريخية مطلقة، ولا تستطيع تلبية احتياجات الحاضر ولا صنع المستقبل. العزلة بداية التعصب يعانى المجتمع المصرى منذ حوالى أربعين عامًا من انتشار التيارات الفكرية والسياسية المتشددة دينيًا، التى استطاعت التغلغل إلى الريف المصرى اجتماعيًا وثقافيًا، وبث الثقافة الدينية المتشددة الرافضة للتعددية والتنوع الدينى والثقافي. وإذا كان لانتشار التشدد الدينى فى مصر أسباب سياسية فإن له أسبابًا جغرافية وتاريخية وثقافية لا تقل أهمية عن الأسباب السياسية الحالية. يوضح لنا الدكتور لويس عوض (أحد أهم مفكرى مصر فى القرن العشرين) فى دراسته «حوار الشاطئين» المنشورة فى كتابه «ثقافتنا فى مفترق الطرق» (1983) هذه الأسباب، فيقول «أن مشكلتنا هى أننا أمة متقوقعة سلاليًا وحضاريًا وثقافيًا، وأننا لم نعرف الجد والقوة إلا فى انفتاحنا على الخارج». ويؤكد د. لويس عوض فى الدراسة نفسها على أن مصر بلد يتمتع بالانسجام بل والصفاء السُلالى بأغلب ما فيه من مسلمين وأقباط، بسبب التصاق الفلاح بأرضه وعزلته داخل صحاريه وقلة تعرضه للثقافات والحضارات المستوردة إلا فى المدن الكبرى لاسيما القاهرة والإسكندرية. فالعزلة رغم أنها حفظت لمصر كيانها القومى، فإنها مسئولة أيضًا عن جعل الريف يغرق فى قيم الماضى والجمود. إن العزلة التاريخية للريف إضافة إلى الأسباب الحالية من ارتفاع معدلات الفقر وضعف مستويات التعليم وسيطرة المتشددين الدينيين على المجال العام والخدمات الاجتماعية، جعل نشر ثقافة التشدد والتعصب فى الريف ضد التنوع الدينى والثقافى أمرًا سهلًا يسيرًا. الانفتاح والتعددية هما سبيل المصريين للمستقبل فإذا كانت العزلة الجغرافية قد حرمت الريف المصرى من الانفتاح والحوار ليس فقط مع ثقافات العالم بل مع ثقافة المدينة المصرية وأفكارها الحديثة، فإنها تسقط اليوم بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات التى وصلت إلى أغلب أهل الريف وخاصة الشباب والشابات منهم. فهل يكفى هذا ؟؟ نعم يمكننا الاستفادة من ثورة الاتصال، فى تشجيع الأجيال الجديدة فى اكتشاف تنوعنا الثقافى الذى تشكل عبر العصور من حكمة وعلم مصر القديمة، والأديان السماوية التى آمن بها المصريون «المسيحية والإسلام»، والحضارات والثقافات التى وفدت إلى مصر مثل اليونانية والرومانية والعربية، إضافة إلى الثقافة الغربية الحديثة العلمية والفكرية التى تؤثر فى المصريين منذ قرنين من الزمان عبر التعليم والثقافة والاقتصاد والنظم القانونية والسياسية. إنه المركب الثقافى الغنى الذى يدحض أوهام الهوية المنفردة التى تنتج التعصب. تحية للفنانين الكبيرين محمود رضا وعلى رضا، اللذين استطاعا بالإيمان والشغف وجرأة المبادرة الخاصة أن يلهما الكثير من الفنانين والمبدعين فى فرقة رضا، لتجسيد روح مصر المتنوعة الغنية.