كتبت: عفاف السيد تقف فى وسط الطريق تنتظرنى وقد تعثرت ولم أبك، تنحنى لتمسح ركبتى التى تجرحت وتقبل كف يدى الذى لوثه تراب الشارع وتقول: معلش ياحبيبتى. تسير مسرعة وأنا أجرى وراءها مجرورة من ذراعى وقد ضاعت معالم الطريق خلف دمعات انسابت ونشيج مكتوم قبل أن تلاحظ أنى متعبة.. تجلسنى بجانب عم زخارى على باب الكنيسة وتقول: مش هغيب.. فأجرى خلفها وقد وقفت أمام تمثال العدرا تتمتم وكنت صامتة ولا أدرى ماذا أفعل. تأخذنى فى حضنها وتحملنى لأوقد شمعة وتوقد هى شمعات وتبتسم وهى تقول: الشمعة دى عشان العدرا تباركك يابت بتى.. فأبتسم وقد التصقت بها وأنا أشد فستانها الأسود ذى الوردات الخضراء والذى ظل عالقًا فى قلبى. كانت «ورد» جدتى لأمى.. لكنى كنت أناديها ماما، وأعيش معها، وكانت تأخذنى كل أسبوع نسير هذا الطريق السحرى الطويل إلى الكنيسة الكبيرة البعيدة، والتى كنت ألعب فيها حتى أتعب، فأنام هادئة حتى يوقظنى الجوع. نسير عائدتين وقد اشترت لى أشياء مختلفة كل مرة، وفى كل مرة تظل الرائحة تستعمر روحى. تعاملنى ورد وكأننى هى، تتحدث معى طوال الوقت وكأنها تحدث نفسها، تحكى لى حكايات عن بنت السلطان اللى حبت الفقير الغلبان ولكنها تزوجت غيره، ولما مات زوجها وهى بعد لم تكمل عامها السابع عشر، تزوجت حبيبها الذى لم ييأس لحظة ولم يتركها تغيب عن نظره، أخذها وطفلها وخرجا من الصعيد إلى المحروسة حيث أنجبت أولاد الحب. تجلس ورد تغنى وهى تلت الطين الأسوانى وتصنع تماثيلها التى تطلق عليها أسماء من خيالها، تضع التماثيل على أرفف عالية حتى لا أصل إليها، فى تلك الحجرة التى لا يدخلها غيرها وأنا ماسكة فى ديل جلبابها البنفسجى أبو وردات صفراء وبيضاء، وكانت تضع حتة الطين الباردة فى كفى وتحكى عن شوارع تحبها وعن بلاد تعرفها وعن كائنات خرافية وأشخاص كثيرين وعن ألوان وأنوار، كنت قد أحببت كل ما حكت وكنت ألتصق بها أكثر، وقد أحببت الألوان والنور والشوارع والكائنات، قبل أن تكف عن الحكى والحركة وكانت تبكى كثيرًا وقد مرضت. ظلت ستى «ورد» هى مصدر البهجة والغموض والأمان، أورثتنى عيونًا ترى التفاصيل وروحًا تحتفظ بالروائح وكل الحكايات والألوان والفضة. لا شىء يضاهى لحظة مع ستى ورد، كل ما أنا عليه هو غرسها، حتى إن الحكايات هى من فتحت لى كنوزها، ووهبتنى أسرارها، تلك الطريقة التى كانت تبدأ بها الحكاية ثم تتوقف لتبدأ حكاية جديدة ثم تلت الطين وتغنى وأنا أعرف بالخبرة أنها ستعود للحكاية القديمة وقد أدمنت السرد والتنقل فى مدنها وشوارعها وتفاصيل شخوصها، الذين عرفت بعدما كبرت أنهم يسكنون قلبها، وأن الحكايات هى عالمها وقد أورثتنى هذا العالم الشجى لأكتبه لها حين استطعت الكتابة. ستى «ورد» كانت قد فقدت الحركة فكنت عيونها وقدميها، أسير فى الشوارع وأعود لأحكى لها عن أرصفة وناس وعربات، وأختلق أحداثًا وأربط بين الحكايات لأخلق سياقًا يجعل ما أكذبه عليها منطقيًا، تدفعنى للخروج لأعود لها بحكايات عن النور والألوان والأشياء والناس، وكنت أجهد عقلى لأخلق كل يوم حكايات جديدة، وأرى تلك اللمعة فى عينيها العسليتين وهى تتنفس بعمق وتنام هادئة. ما بينى وبين ستى.. عوالم متصلة تسكنها الحكايات التى أدخلها الآن لأبقيها وأبقى.