ريهام العادلي تكتب: ذكرى تحرير سيناء .. وعظمة الانتصار المصري    البورصة المصرية تخسر 50 مليار جنيه في ختام تعاملات الأربعاء    بعد الموافقة عليه.. أهداف هامة لقانون "التأمين الموحد"    محافظ أسوان يوجه بتركيب ماكينة صراف آلي لأهالي قرية العباسية بكوم إمبو    بث مباشر.. دورة غير عادية لجامعة الدول العربية لبحث التطورات في فلسطين    عاجل| الدفاع الإسرائيلي: تم القضاء على نصف قادة حزب الله بجنوب لبنان    سفير بكين بالقاهرة: الصين تساهم بنسبة 30% فى النمو الاقتصادي العالمي    المرصد الأورومتوسطي: اكتشاف مقابر جماعية داخل مستشفيين بغزة إحدى جرائم الحرب الإسرائيلية    مانشستر سيتي يتلقى ضربة جديدة قبل مواجهة برايتون    فانتازي يلا كورة.. من حصد نقاط "Bonus" في الجولة 34؟    لاعتراضه على شرب مخدرات أمام منزله.. مدمن يطعن عامل حتي الموت بالقليوبية    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع    ثقافة وسينما وموسيقى.. نشاط مكثف ل الأوبرا نهاية ابريل (تفاصيل)    أوبرا دمنهور تحتفل بعيد تحرير سيناء الأحد (تفاصيل)    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    5 كلمات.. دار الإفتاء: أكثروا من هذا الدعاء اليوم تدخل الجنة    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    رئيس جامعة الزقازيق يُهنئ السيسي بمناسبة الذكرى ال42 لأعياد تحرير سيناء    الخارجية الأمريكية تحذر باكستان من احتمال التعرض لعقوبات بسبب تعاملاتها مع إيران    أسوشيتيد برس: احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين تستهدف وقف العلاقات المالية للكليات الأمريكية مع إسرائيل    قبطان سفينة عملاقة يبلغ عن إنفجار بالقرب من موقعه في جنوب جيبوتي    الصين تكشف عن مهام المركبة الفضائية «شنتشو-18»    برلمانية: ذكرى تحرير سيناء الغالية تحمل أسمى معاني الوفاء والعزة والفخر    11 يومًا مدفوعة الأجر.. مفاجأة سارة للموظفين والطلاب بشأن الإجازات في مايو    عاجل.. برشلونة يقاضي ريال مدريد بسبب هدف لامين يامال    أيمن الشريعى: لم أحدد مبلغ بيع "اوفا".. وفريق أنبى بطل دورى 2003    جِمال الوادي الجديد تحصد مراكز متقدمة بمهرجان سباق الهجن بشمال سيناء.. صور    يسري وحيد يدخل حسابات منتخب مصر في معسكر يونيو (خاص)    مع بدء الاستعداد لتقديم تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على أهميته وفقا للقانون    برلماني: توجيهات الرئيس السيسي بتطوير منظومة النقل خطوة مهمة    المديريات تمنع مرور معلم المادة على اللجان أثناء فترة امتحان صفوف النقل    العدل تبدأ الجلسة الرابعة ل"اختراعات الذكاء الاصطناعى وملكية الاختراع"    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    بعد أن وزّع دعوات فرحه.. وفاة شاب قبل زفافه بأيام في قنا    الترويج للاستثمار في مجالات التحول الأخضر والربط الكهربائي لتحويل مصر لمركز إقليمي للطاقة    محافظ الغربية يتابع استعدادات المركز التكنولوجي بطنطا لتطبيق قانون التصالح    نقيب «أسنان القاهرة» : تقديم خدمات نوعية لأعضاء النقابة تيسيرا لهم    أفلام موسم عيد الفطر تحقق 19 مليون جنيه خلال أسبوعها الثاني في دور العرض    توقعات علم الفلك اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024    تعرف علي موعد عرض مسلسل نقطة سوداء    في ذكرى تحرير سيناء.. المؤتمر: أرض الفيروز بقعة مقدسة لمصر    مايا مرسي تشارك فى ندوة "الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادى للمرأة"    الكشف على1017 مواطنا في 10 عيادات تخصصية بالإسماعيلية    فوز الدكتور محمد حساني بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    قد تكون قاتلة- نصائح للوقاية من ضربة الشمس في الموجة الحارة    للوقاية من الإصابة ب "تشمع الكبد"- اتبع هذه النصائح    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    ضبط 4 أشخاص بسوهاج لقيامهم بالتنقيب غير المشروع عن الآثار    للقضاء على كثافة الفصول.. طلب برلماني بزيادة مخصصات "الأبنية التعليمية" في الموازنة الجديدة    « إيرماس » تنفذ خطة لتطوير ورشة صيانة الجرارات بتكلفة 300 مليون جنيه    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    «خيال الظل» يواجه تغيرات «الهوية»    أبومسلم: وسام أبو علي الأفضل لقيادة هجوم الأهلي أمام مازيمبي    رئيس هيئة الرعاية الصحية: خطة للارتقاء بمهارات الكوادر من العناصر البشرية    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجديد الفكر العربى
نشر في صباح الخير يوم 15 - 05 - 2019

الحوار مع التراث، والتفاعل معه تجربة فكرية مهمة، ودرسه وتعمقه من أولى خطوات تجديد الخطاب الثقافى بل و الدينى .. ومن أهم الكتابات فى قراءة تراثنا كتاب : «تجديد الفكر العربى» للدكتور زكى نجيب محمود، الصادر عن دار الشروق فى طبعته الحادية عشرة عام 2018.
التراث والمعاصرة
وقد استطاع زكى نجيب أن يحدد مشكلة المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة، فهى ليست كم أخذنا من ثقافات الغرب وإنما المشكلة هى كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذى بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه ، وبين تراثنا الذى بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها فيقول:
«إنه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل فى تجاور»، وتساءل: كيف إذن تكون الطريق؟
وفى غمرة الدعوة إلى القطيعة مع التراث قدم زكى نجيب محمود تأملا فكريا ناضجا لما يمكن أن نأخذه ونتمسك به من التراث، وما الذى يجب أن يذهب إلى متحف الأفكار.
وكان زكى نجيب محمود قد بدأ حياته الفكرية بدعوة إلى بتر التراث بترا، وأن نعيش مع من يعيشون عصرنا علما وحضارة، بل نأكل كما يأكلون ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون منطلقًا من فكرة أن الحضارة وحدة لا تتجزأ إلا أنه كرّس سنوات نضجه إلى الإجابة عن السؤال الملح .. ما هى التركيبة التى يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الذى نعيش فيه لنكون عربا ومعاصرين، ما الذى نأخذه ؟، وما الذى نتركه من القيم التى انبثت فيما خَلَّف لنا الأقدمون ؟، وهل فى مستطاعنا أن نأخذ وأن ندع على هوانا ؟ وما الذى نأخذه ونتركه من الثقافات الغربية الوافدة.. ومن تلك الأسئلة، وتوالد أسئلة جديدة تكمن أولى خطوات تجديد الخطاب الثقافى والدينى.
ثقافة عقل ووجدان
ويرى كاتبنا أن الثقافة العربية القديمة قد تميزت باختيارها لوسيلة العقل رغم ما شهدته من متصوفة جاءوا كرد الفعل الذى يُحدث شيئًا من التوازن أكثر مما جاءوا ليكونوا هم اللسان المعبر عن وقفة العربى ونظرته، ويضيف بأن الجمع بين العقل والوجدان لا يتمثل فى تراث ثقافى بمثل الوضوح الذى يتمثل به فى الثقافة العربية وتراثها فيقول: «قد كان فى شرقنا العربى هذا الجمع المتزن بين عقل ووجدان، أقوله من وقفة المؤرخ للثقافة، المحلل لخصائصها، ينظر فيما حدث بالفعل، وما قد نتج بالفعل ثم يُصدر الأحكام».
معنى المحاكاة
ويتحدث كاتبنا عن جون ديوى حين أراد التجديد فى الفلسفة والمنطق ليجىء تجديده مسايرا للعلم الحديث فهو يحاكى أرسطو على أن فهمه للمحاكاة هو أن يصنع لعصره مثلما صنع أرسطو لعصره، ومن هنا يرى أن نرى ماذا صنع الأسلاف فى دنياهم لنصنع نظيره فى دنيانا، نحافظ على السمات الأصيلة التى تميزنا دون أن تقتصر هذه المحافظة على إعادة الناتج نفسه مرة أخرى فى نسخة أخرى فإذا كانت مشكلاتهم غير مشاكلنا واهتماماتهم غير اهتماماتنا فإننا لابد أن نهتم بما يميز العربى القديم فى وقفته تجاه العالم من حوله، وهو قد نظر إليه نظرة عقلية ويقول: «لقد كانت للشاعر الفيلسوف محمد إقبال ملاحظة جديرة بالاهتمام أوردها فى كتابه عن «التجديد فى الفكر الإسلامى»، مؤداها أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان لابد أن يكون خاتم الأنبياء وأن تكون رسالته آخر الرسالات لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم العقل فيما يعرض للناس من مشكلات».
ومن هنا يقول زكى نجيب محمود: «وإن حد العقل هو أن ينتقل الإنسان من معلوم إلى مجهول، ومن شاهد إلى غائب، ومن ظاهر إلى خفى خبىء، من حاضر إلى مستقبل لم يحضر بعد أمام البصر، أو إلى ماضٍ ذهب وانقضى، ولم يعد مرئيا مشهودا».
نحن وسلطان الماضى
ويرى كاتبنا أن ليس كل ما فى تراثنا من قيم يلزمنا الآن، بل علينا أن نفكر مليًّا فيما نأخذ وفيما ندع، فعلى سبيل المثال: إن سلطان الماضى على الحاضر هو بمثابة السيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، وهذا ما يحدث عندما يجد المرء نفسه حيال فكرة أو عبارة قالها رجل قضى منذ زمن، لكنه ترك وراءه شهرة وسمعة تملأ النفوس بالرهبة، وقد يجد الإنسان من المتعذر النجاة من سحر هذه الرهبة فيتقبل كل ما تركه سلفه ذاك ذو الشهرة، وقلما نجد من تبلغ به الجرأة لفض الختم السحرى عن الصندوق المسحور، فما أسرع ما يتحول الأمر عند الإنسان من إعجاب بالقديم إلى تقديس له يوهمه بأن ذلك القديم معصوم من الخطأ، ومن هنا يقول: «باستثناء أصول قليلة جدا فيها أصالة وابتكار، هناك هذه الألوف من المجلدات التى لا تضيف حرفا واحدا جديدا فهى شروح، وشروح للشروح وتعليق، وتعليق على التعليق» ص 49
زكى نجيب محمود:«تجديد الفكر العربى» ويؤكد كاتبنا على ضرورة التزام الموضوعية عند مناقشة الأفكار فيقول: «الفكرة عندنا ممزوجة بشخص صاحبها وكرامته فكأن رفضها رفض له وتقبلها قبول له، أما أن تُنزع الفكرة عن شخص قائلها لتوضع على «أرض» البحث، فلايحدث عندنا لا يفرش له بساط إلا فى عالم الأمثال السائرة فيدور عليها النقاش إيجابا وسلبا وتصحيحا وتكميلا دون أن يكون فى شىء من ذلك كله ما يمس صاحب الفكرة فى شخصه ولا فى كرامته – حاكما كان صاحبها أو محكوما – فذلك ليس من طباعنا ولا هو جزء من كياننا» لذا فإن الموضوعية شرط أساسى للسائر نحو حياة العلم.
ويرى كاتبنا أنه لم يكن فى ساحة الفكر عند الأسلاف «حوار» حُر إلا فى القليل النادر، وفى مواقف لم تكن بذى خطر كبير على سلطة الحاكم.
ويضيف : «الأصل فى الفكر – إذا جرى مجراه الطبيعى المستقيم هو أن يكون حوارا بين «لا» ، و«نعم»، وما يتوسطهما من ظلال وأطياف فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكرا، ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكرا، وما من فكرة إلا وتحتمل أن يكون نقيضها هو الصواب، وكل ما يسعنا ونحن نفكر فى مشكلة معروضة هو أن نتقصى جميع الممكنات ليقوم بينها حوار يثبت أحدها ويُقصى سائرها.
لم تكن مصادفة أن اخذ سقراط يطوف فى الأسواق محاورا، وكذلك الحوار عند أفلاطون، فالفكر فى أول مرحلة له على طريق التاريخ كان يريد لنفسه أن يكون سؤالا وجوابا، أخذا وعطاءً» ص 29
الإحياء الصحيح للتراث
ويرى كاتبنا أن الإحياء الصحيح للتراث يكون بأن يأخذ العربى المعاصر من موقف العربى القديم صورته لا مادته فيأخذ هذه الوقفة العاقلة المتزنة التى وقفها سلفه لينظر إلى الأمور بعين العقل ومنطقه دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة بذاتها، ولا إلى الاكتفاء بالتراث القديم لذاته وأولئك الذين يحسبون أن إعادة طبع الكتب القديمة مهما بلغ الجهد فى تحقيقها فيه الكفاية لن يقدموا جديدا لحياتنا المعاصرة ولا للتراث القديم لأنه لا يريد لهذا التراث أن يعمر الرفوف، وأركان المكتبات ولكنه يريد أن يبدأ العمل على هذا التراث فنعيد قراءته ونتأمل وقفات العربى القديم التى ميزت فكره وأدبه وثقافته.
«الياقوتة» و«العقد الفريد»
ومن أمتع فصول كتاب «تجديد الفكر العربي» لزكى نجيب محمود هو وقفاته مع الأسس الثابتة لهذا الفكر، وتحليله لرؤى العربى القديم ليستخلص أهم علامات المثقف، وطرق تجاوبه مع العصر فيقول: «علامات المثقفين تختلف باختلاف العصور فلا ثقافة لمثقف إلا أن يتقن فيما يتقنه طرائق الاستدلال المنطقى السليم، ولئن وصف أرسطو بأنه المعلم الأول لمنطقة، فقد وصف الفارابى بأنه المعلم الثانى لتقديمه ذلك المنطق إلى العرب» ص 256.
ويستقرئ كاتبنا بعض علامات المثقف العربى القديم والتى يطالب بها المثقف العصرى فيتأمل كتاب «الياقوتة» من العقد الفريد لابن عبدربه، وهو الكتاب الذى خصصه مؤلفه للحديث عن العلم والأدب، فيوجز المبدأ الذى لابد أن يكون أساسا لكل معرفة علمية وهو أن تبدأ المعرفة بإدراك الحواس ثم تتدرج من هذه البداية الضرورية لتنتقل من المحسوس إلى التصورات الذهنية، وما يربط بينها هو الفكر فإذا تأملنا مضمونه وجدناه مثيرا للإرادة، وعندئذ لابد من الأخذ باسباب العمل، ويدعو كاتبنا كل من أراد التجديد والابتكار فى الفكر أن يبدأ من تجربة الحواس.
فالعلم لا يتنزل كرحمة من السماء وإنما لابد من السعى إليه فى معامل التجربة والاختبار ويرى أن المعرفة العلمية هى فى صميمها مخططات لأعمال، وليست بناءات تبنى فى الذهن ليتأملها الإنسان ثم يأوى إلى مخدعه ليستريح، ويقرر ابن عبدربه أن حمل العلم بغير استعماله أمر لا طائل وراءه، بل إنه مجلبة للضرر، فلابد أن ينتقل العلم من مرحلة التحصيل إلى مرحلة التطبيق العملى، بهذه الخصائص الثلاث أن العلم تجريبى، وبرجماتى، وللناس كما رأى المثقف العربى القديم متمثلا فى ابن عبد ربه.
وصفات المثقف كما يراها زكى نجيب: هى أن يكون مثقفا بمقدار ما تؤرقه هذه الجذوة التى تدفعه إلى طر ح الأسئلة، ومحاولة العثور على إجابات لها، بل إن الحياة نفسها حين تغزر أغوارها فى نفس الإنسان إن هى إلا هذا الإلحاح فى السؤال والإلحاح فى البحث، ونقلا عن كتاب «الياقوتة» أيضا:
«حين تساءل سائل أمام أبى عمرو بن العلاء: هل يَحْسن بالشيخ أن يتعلم؟» فأجاب: «إن كان يَحْسُن به أن يعيش فإنه يَحْسُن به أن يتعلم».
محاماة عن اليقين
هكذا كانت ثقافة العربى القديم، دعوة إلى ا لعلم ودعوة إلى إعمال العقل، ويرى كاتبنا أن كلمات ابن عبدربه فى كتابه «الياقوتة» تصلح أن تكون دستورا للحياة العلمية منهجا ومعيارا، فهو يروى فيما يروى فى كتابه ضرورة الشك لمن التمس اليقين فى أى مسألة يطرحها للبحث، فقد سُئل عالم لماذا يكثر من الشك؟ فأجاب: «محاماة عن اليقين»، وسئل عالم آخر عن حديث فقال: «أشك فيه»، فقال السائل: «شكك أحب إلىَّ من يقينى».
ويضيف كاتبنا: «فماذا تريد للروح العلمية الصحيحة معيارا أصلح من هذا المعيار؟ وكيف يكون هذا ما رسمه الأسلاف العرب طريقا، ثم تصيبنا الدهشة حين يقول لنا قائل: إن أعلام المنهج العلمى فى الغرب يطالبون بأن نشك أولا حتى يأتى اليقين خالصا.
ومن هنا يقول زكى نجيب: «يجب أن نحيى تراثنا لنحياه، ابتغاء التميز بطابع يصل حاضرنا بماضينا، فليس المراد هو إعادة طبع كتب التراث لتوضع على الرفوف، بل المراد هو أن نعيش مضمونها على نحو يحفظ لنا الأصالة ولا يفوت علينا روح العصر، وإن لنا لتراثا عن العلم والعلماء يكفل لنا أن نتقدم فى ثقة مع المتقدمين نحو علم حديث، وخصالنا من إرث عزيز، يعلى من شأن العقل فهاهو أبوبكر الرازى فى كتابه «طب النفوس» يفرد فصلا لبيان فضل العقل ومدحه، فهو مفتاح رئيسى من مفاتيح الشخصية العربية كما وقعت بالفعل فى مجرى التاريخ، فنموذج الإنسان كما رسموه هو الإنسان الذى كان محكوما بعقله لا بشهوته وغريزته، والعقل هو المبدأ الأساسى عند الجاحظ فى كتابه «المعاش والمعاد»، وعند الغزالى، والرازى فى كتاباتهما.
وقفة المثقف العربى مع غربته
ويختار كاتبنا من نقاط الوقوف والتفكر فى التراث وقفة أبى حيان التوحيدى فى كتابه «الإشارات الإلهية» والذى شعر بالغربة فى عصره - القرن العاشر الميلادى - وهذه الوقفة المغتربة هى نفسها وقفة المثقف العربى المعاصر يقول أبوحيان: «أما حالى فسيئة كيفما قلبتها لأن الدنيا لم تواتن لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب علىَّ فأكون من العاملين لها».
ويتساءل: «إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس فى قلوبنا؟، إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟»، وكان أبوحيان قد نظر إلى العلماء الفقهاء من حوله الذين جعلوا دراسة الكتاب الكريم شغلهم الشاغل فلم ير فيهم إلا قوما يلوكون بألسنتهم لفظا ويعيدون الرواية حفظا دون أن يسرى شىء مما قالوه وحفظوه فى حياتهم العملية، فالقول فى واد والعمل فى واد آخر.
ويتساءل زكى نجيب محمود: «فماذا نقول نحن فى علمائنا وفقهائنا الذين يظنون أنهم قد وقعوا على المعين الفكرى الثرى إذ وقعوا على دراسات من التراث، والله وحده أعلم كم من علمهم يتسرب إلى حياتهم الفعلية فى مواقفهم التى يقفونها إزاء المجتمع بنظمه وأفراده، وإزاء العالم كله بمسائله ومشكلاته». ص 83
القدرة على نقد التراث
قراءة زكى نجيب للتراث كانت قراءة نقدية واعية، فهو لم يقع فى أسره، وإنما أشار إلى مواطن القوة فيه كما استطاع نقد مثالبه فيقول: «لم يكن فى ساحة الفكر عند الأسلاف حوار حر إلا فى القليل النادر، وفى مواقف لم تكن بذى خطر كبير على سلطة الحاكم». ص 41
ويتحفظ كاتبنا على جانب ضخم من تراثنا لا يراه جزءا من حياتنا الفكرية التى نعيشها ومحال أن يكون، وعصرنا لن يجد شفاءه فيما قاله السلف فى بعض أمورهم، وعلى أبناء عصرنا ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضا، ويضيف: «فإذا شئنا أن يكون لنا موقف من تراثنا فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معا فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم العقلية، ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه، ويؤكد كاتبنا على ضرورة الحذر عندما نقول للعرب المعاصرين أنهم ينبغى لهم أن يحيوا تراث الأسلاف فما كل تراث ينبغى إحياؤه بمعنى أن يسرى فى حياتنا العصرية، وإن كان كل تراث واجب الدراسة عند المؤرخين. ص 123
التراث منطوٍ على أضداد ومتناقضات، فعلى الداعين فى غير حذر إلى وجوب العودة إلى التراث أن يحددوا أى هذه الأضداد والمتناقضات يريدون أم يريدون أن ندخل فى الصورة لنتخبط كما كانوا يتخبطون بالأمس؟
اختلاف الأمس واليوم
ويقول كاتبنا: «إن موضوعات العقيدة والرأى مختلفة، أما صورة الموقف فواحدة لم تتغير عبر القرون، فهنالك دروشة تعجب الجماهير العريضة، يقابلها عقل مستعار من ثقافة أخرى، تستخدمه الصفوة القليلة لتقاوم به دروشة الكثرة الغالبة، ليس الأمر مجرد تقابل بين أنصار القديم وأنصار الجديد أو بين رجعية وتقدمية، كالذى نراه فى كل بلد، وفى كل عصر، وإلا لما كان فيه طابع خاص يميزنا، وإنما الأمر فيه أكثر من هذا التقابل بين صوفية دراويش وعقلية العلماء، مع ملاحظة يضيفها إلى هذا التعارض وهى أن صوفية الدراويش تلقى الرضا والقبول عند عامة الناس، وعقلية العلماء تجىء وافدة دائما ولا تنبثق من أهل الإقليم وتلك هى محنتنا فى حياتنا الفكرية والثقافية،. كما كانت بالأمس فلو كان إحياء التراث لنحياه معناه أن نتقمص هذا التعارض الثقافى بعينه إذن فقد أحييناه وعشناه إلى نخاع النخاع.
بين ثقافتين
ويشخص كاتبنا ما يقع فيه المثقفون العرب قديما وحديثا فيقول: «الصفوة العاقلة بثقافتها المستعارة سواء أكان ذلك عند أسلافنا الأقدمين أو فى مجتمعنا القائم سرعان ما تنشق على نفسها فيخرج منها فريق يحارب فريقا بأن يستكبر أولهما على ثقافته أن تكون مستعارة، ويعيب على الآخر إقباله المخلص على فكر ليس نبات أرضه، وأما هذا الفريق الآخر فيسقط فى يده لا يدرى ماذا يصنع لأنه لا يجد أمامه سبيلا إذا أراد ثقافة عقلية إلا أن يفتح لها النوافذ لتهب عليه مع رياح الشمال والغرب، وظهرت مؤلفات بكاملها يتصدى مؤلفوها للرد على المنطق الأرسطى والفلسفة اليونانية عموما فى الزمن القديم، وحتى أولئك الذين اعتمدوا على النظرة العقلية للوافد، فإن هؤلاء أيضا سرعان ما انشقوا على أنفسهم بإزاء العقل ومناهجه وأحكامه، وخرج منهم رجال الفقه ليهاجموا الفلسفة والمنطق تاركين علماء الكلام وحدهم فى الميدان أو قل تاركين فريقا واحدا من علماء الكلام هم المعتزلة الذين ثبتوا فى ميادين العقل ولم يتحولوا، بينما كان من المتكلمين - كالأشاعرة - من استكثر أن يُترك العقل وحده حكما فى الميدان فقالوا: نجعل للإيمان الصرف قسطا وللعقل قسطا. ص 141
وفى عصرنا يغلب على أنصار العقل أن يستمدوا أصولهم الثقافية من ينابيع الحضارة التى تكون لها الصدارة فى عصرها، وكانت تلك الحضارة فى العصر القديم هى اليونان وفارس والهند، وأما ينابيع عصرنا فهى أوروبا وأمريكا، وفى كلتا الحالتين قديما وحديثا تجىء الثقافات الوافدة فتصطدم بأفكار لا تتجانس معها فينشق الناس عندئذ شقين: أحدهما يناصر الثقافة الوافدة لأنها منحدرة من حضارة لها صدارة، والآخر يتمسك بالأفكار المحلية السائدة رافضا ما يناقضها من ثقافات الآخرين إلى جانب من لا ترضيهم ظواهر الأمور فيبحثون وراءها عما تطمئن له نفوسهم من حقائق الغيب وترىالمثقفين العقلانيين الذين يهتمون لسلامة الأفكار استنادا إلى قيم أساسية يأخذونها مأخذ التسليم من أهمها حرية الإنسان، وهنالك الفريق الثالث الذى يلتزم الشرائع كما نصت عليها ظواهر التنزيل والحديث والأخبار المتواترة عن السلف الصالح.
وهو فريق تمثل فى جماعات قديمة كما يتمثل اليوم فى جماعات معاصرة، وهؤلاء يختصمون مع الباحثين عن باطن وراء الظاهر لأن فى ذلك مجالا للأهواء والنزوات، ثم يختصمون كذلك مع المثقفين أنصار التفكير العقلى والفكر الحر لأن ذلك معناه مجاوزة النص وما يستلزمه، على أن هذا الفريق يتدرج فى مرونة النظر درجات متفاوتة فمنهم من يسد الأبواب دون ابتكار العقل مكتفيا بالأخبار المروية عن السلف، ومنهم من يجد ألا مناص من إفساح المجال أمام العقل حيثما أعوزتنا أخبار السلف التى نهتدى بها.
هكذا تتشابه الصورة على مسرح الفكر قديما وحديثا حتى ليمكن القول إن المحدثين فى طريقة انقسامهم واختلافهم امتداد للتراث الموروث عن أسلافهم فى الاختلاف.
لقد أصدر زكى نجيب محمود كتابه «تجديد الفكر العربى» لأول مرة عام 1971، وتلك التى بين أيدينا هى الطبعة الحادية عشرة لعام 2018.
ومازالت الحياة الفكرية فى بلادنا وحول مسائل التجديد الفكرى والدينى لا تخرج عن هذا النطاق على الرغم من أن هذا الانقسام لا يتكرر فى كل الثقافات، ولا طريقة الجماعات الفكرية فى تقبل الثقافات الوافدة من الخارج تتخذ دائما هذه الصورة نفسها التى اتخذتها فى ثقافتنا العربية قديمها وحديثها على السواء كما يقول كاتبنا، فهل لنا من وقفة أو وقفات لنقد هذا التراث، وإعادة قراءة الواقع، والمضى قدما فى تجديد الخطاب الثقافى والدينى، والنظر إلى قضايانا نظرة علمية مدققة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.