طرأت تغييرات جذرية على مستوى العالم فى مفهوم وظائف الدولة، الأمر الذى أدى إلى إعادة النظر فى المجالات التى يجب أن تظل فى إطار هيمنتها وإشرافها المباشر وتلك التى يجب أن تخرج من هذا الإطار.. تتفاعل الدولة والكيانات ذات المصالح الاقتصادية والطبقات والفئات الاجتماعية فى إطار شبكة من العلاقات المعقدة، حيث يشكل كل من القطاعين الخاص والمدنى غير الهادف للربح. مفاهيم إدارة المؤسسات إلى جانب الجهاز الإدارى للدولة، أضلاع مثلث العلاقات فى المجتمعات الحديثة.تتباين سياسات الدول فى استخدام الموارد البشرية والمعلوماتية والتقنية وتفعيل آليات التنفيذ الكفؤ والفعال لتلك السياسات، واعتماد أساليب علمية لتقييم مدى تميز أداء ما تقوم به من أنشطة وما تقدمه من خدمات للمواطن الذى يُعد وسيلتها وغايتها فى آن واحد. شهدت مفاهيم إدارة المؤسسات العامة والمرافق الحكومية تطورًا ملحوظًا وهى الشفافية وتمكين العاملين Empowermentوإدارة الابتكار Innovation والجودة وتحقيق رضا العملاء، وصولاً الى تبنى مفهوم المؤسسة المتعلمة LearningOrganization لإحداث التغيير المطلوب والتحول إلى التميز فى إدارة الأداء الإدارى للدولة. الابتكار والتطوير تتسم المؤسسات الاقتصادية الخاصة بأنها سريعة التحرك Fast- Moving Operation بالمداومة على التعلم المستمر Continuous Learningوتطبيق الخبرة المكتسبة بصورة يومية! ولأن الابتكار والتطوير هما أهم ما يميز أداء المنظمات فى العصر الحالى، فقد صارا هدفًا رئيسيًا لمؤسسات العمل العام وأجهزة الدولة الإدارية والأمنية على حد سواء لتقوم بدورها الجديد المنوط بها الذى يحقق الرضا لجميع الأطراف، ولن يتحقق للمؤسسات العامة هذا التميز فى الأداء دون تبنى مفاهيم إدارية حديثة تتشرب فى نسيجها الثقافى ونسقها القيمى، فالتطوير الذى يحقق التميز عملية مستمرة لا نهاية لها وهى جزء من روتين العمل اليومى للمؤسسة. وقد أطلق على هذا النمط من المؤسسات فى السنوات الأخيرة مصطلح المؤسسة المتعلمة التى تهدف إلى توظيف الخبرة المكتسبة فى التطوير المستمر للأداء الذى يحدث تحولًا كيفيًا مخططًا نحو التميز والحفاظ على هذا التميز بشكل دائم، فضلاً عن علاج القصور فى أى عنصر من عناصر الأداء إن وجد بحيث يتحقق عنصرا الكفاءة والفعالية فى الأداء والتحسين والتطوير المستمر. المشكلات المزمنة هناك علاقة منطقية بين مفاهيم المؤسسة المتعلمة وأساليب الحوكمة الحديثة واستراتيجيات التطوير المؤسسى على مستوى المؤسسة والموظف والمهام الموكلة إليهما، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأن تجاهل وضع أسس لتطوير العمل الإدارى والتنموى فى الوحدات الأساسية والقطاعات الإنتاجية والخدمية أدى إلى المشكلات المزمنة التى تعانى منها غالبية مؤسسات الدولة. بلا شك، هناك نوع من التلكؤ فى تصميم مقاييس محددة للأداء والإنتاجية يمكن على أساسها تطبيق نظام فعال للحوافز، كما أن محاولات الإصلاح المالى والإدارى بأجهزة الدولة تمنى بفشل ذريع طالما افتقدت التنسيق والتناغم بينها وبين سياسات التطوير التنظيمى والاقتصادى والسياسى الأخرى فى المجتمع. ينبغى أيضًا الإشارة إلى اعتماد بعض الجهات الحكومية على خطط تدريبية تتسم بتواضع مستوى المادة العلمية وعدم استناد البرامج التدريبية على دراسات واقعية للاحتياجات الحقيقية للمؤسسات، والأهم عدم الاهتمام بتقييم عائد التدريب ومعايير اختيار المدربين وجهات التدريب الأكاديمية والعملية. وعلى نفس الصعيد، تفتقد غالبية المؤسسات العامة للتنسيق والتكامل بين أنشطة التنمية الإدارية الثلاثة وهى البحوث والاستشارات والتدريب وعدم الاستفادة المتبادلة فيما بينها.. نجم عن تضخم الجهاز الإدارى للدولة الذى واكبه تراجع مضطرد فى المهارات والخبرات غير التراكمية أو التقليدية فى مصر عن مجموعة من الآثار السلبية، أبرزها على الإطلاق البيروقراطية المعرقلة للعمل وتفتيت العمل الواحد إلى عدة وظائف هامشية واستحداث درجات وظيفية لشاغليها تتعارض مع مبدأ «القيمة المضافة» وتعدد مستويات الإشراف والمراجعة مما يؤدى إلى إهدار الطاقة والوقت وبطء الإنجاز وعبثية بيئة العمل فى العديد من المواقع الحكومية التى أضحت محلًا لسخرية العامة وتهكم الأعمال الدرامية. أدت تلك العوامل إلى مشكلات مزمنة منها صعوبة توصيف الوظائف وتقييم الأداء «الحوافز – تقارير الكفاية»، وبالتالى تحسين أحوال الموظفين، والتسيب الإدارى وشيوع روح التهرب من المسئولية، وغياب تطبيق مبدأ الثواب والحساب، واختناق فرص الترقي. كما يتذمر العاملون بتلك المؤسسات من عدم حصولهم على معلومات كافية عن مستوى أدائهم ودرجة انطباقه مع المعايير المفترض وضعها سلفًا، بالإضافة إلى أن ما يتقاضونه من أجور لا يرتبط على الإطلاق بأدائهم، وفى معظم الأحيان لا يتلقون أيه توجيهات للتطوير. القصور فى نجاح الإدارة تفتقر الغالبية الساحقة من مؤسساتنا إلى البنية الإدارية التى تتلاءم مع الإدارة الاستراتيجية للموارد البشرية، ويُعزى القصور فى نجاح الإدارة إلى حقيقة أن المداخل السائدة فى إدارة الموارد البشرية فى المؤسسات العامة تم تصميمها لكى تتناسب مع الهياكل المؤسسية الهيراركية «الهرمية». فى حين يؤكد الفكر الإدارى الحديث أهمية التركيز على الهياكل المؤسسية الأفقية، والتى تتضمن فرق عمل ووحدات عمل صغيرة تؤدى مهامها من خلال أنماط ديناميكية انسيابية. لقد دعت الحاجة إلى ظهور معظم عناصر المدخل الجديد فى إدارة الموارد البشرية فى العديد من المؤسسات، نظرًا لأن الممارسات التى كانت تصلح فى المؤسسات التقليدية لم تعد تتلاءم مع المؤسسات الحديثة الديناميكية المبنية على أسس تخطيط العمليات وإدارة فرق العمل. على ضوء ذلك، فإن أبرز المشكلات المرتبطة بالممارسات السائدة فى إدارة المؤسسات العامة هى التركيز بشدة على الفرد والاعتماد على «المدير» دون غيره وغياب التنسيق والتكامل بين الإدارات والوحدات والأقسام والأنشطة المختلفة خاصة وأن الهياكل الإدارية للمؤسسات العامة هيراركية Divisional وليست وظيفية Functional إلا فيما ندر. كما يشكو المديرون من عدم وجود الوقت لديهم لإدارة الناس «People Management»، لأنهم مشغولون فى إدارة الأعمال «Running the Business». التجربة البريطانية تقدم التجربة البريطانية نموذجًا جليًا لتطوير مؤسسات القطاع العام على مستوى الإدارة وقياس وتطوير الأداء، وذلك من خلال إحداث تغيرات جوهرية فى المؤسسات العامة على مدار عشرين عامًا تبنت خلالها سياسة الخصخصة على نطاق واسع. قامت المملكة البيروقراطية العريقة خلال تلك الفترة بالعمل على وضع أسس لاختبار ودراسة السوق وفقًا لمفاهيم مؤسسات القطاع الخاص، حيث ظهرت نتيجة لتلك السياسات الأنظمة الجديدة للإدارة العامة والتى شملت ملامح التغيير الثقافى للقطاع العام بالتحول من المفهوم السياسى البحت للعمل العام إلى تطبيقات الإدارة الحديثة، منها على سبيل المثال تحديد معايير الأداء التى تخضع للقياس والتقييم، وسن مجموعة من سياسات وإجراءات الإثابة والعقاب، والمراجعة الدورية لمستويات الأداء السابقة لكل إدارة وقسم وفرد لتحديد الموارد اللازمة للأداء فى المستقبل. كما تم التخلص من الهياكل البيروقراطية التقليدية والتحول إلى وحدات مؤسسية ذات استقلالية، مع العمل الدؤوب على خفض النفقات ووضع أنظمة تشغيل متغيرة ومرنة طبقًا لطبيعة كل مؤسسة ومجال عملها. الإدارة الذاتية طبق النموذج الإصلاحى البريطانى سياسة تحجيم التدخل الإشرافى متعدد المستويات ومنح المزيد من الإدارة الذاتية، ووضع أولوية للحصول على المعلومات المرتبطة بالأداء الفردى والمؤسسى لتصنيفها وتحليلها وتقييمها. تقدم الدراسات التى تم إجراؤها لتقييم ذلك النموذج لأداء المؤسسات العامة شرحًا وافيًا للمدخلات والمخرجات أو النتائج التى يتيح الحكم على فعالية وإيجابية العلاقة بين أهداف المؤسسة والنتائج التى حققتها وأيضًا كفاءة النظام «نسبة المدخلات إلى المخرجات». تؤكد الأبحاث على أن الطرق العلمية الحديثة التى تم تطبيقها فى إدارة المؤسسات العامة مكنت الجهاز الإدارى من اتخاذ قرارات رشيدة وساهمت فى فعالية وكفاءة تلك المؤسسات، وأتاحت وضع الميزانيات السنوية وتخصيص الموارد والنفقات على المدى البعيد والتى تعد أساسًا لمتابعة ومحاسبة المؤسسات العامة فى إنفاق الأموال التى تخصص لها واتخاذ الإجراءات التصحيحية. إلغاء النظم التقليدية تتطلب عملية الإصلاح المؤسسى والهيكلى فى مؤسسات وقطاعات الدولة بالإضافة إلى الإرادة من جانب القيادة العليا – وهى متوافرة - تطبيق الاستراتيجيات الحديثة التى تتعامل مع إدارة الشأن العام باعتبارها إدارة للأعمالBusiness، إذ إن الأنظمة التقليدية لم تعد تتناسب مع المفهوم التقليدى للمؤسسات فى عالم اليوم سريع التغير والتبدل. حان الوقت لإلغاء النظم الإدارية التقليدية القائمة على الفرد، فلا ينبغى للمدير وحده أن ينفرد باتخاذ القرار ووضع السياسات وتقييم أداء مرءوسيه دون إلزامه بمعايير منضبطة، فتلك الممارسات تدفع الأفراد إلى إرضاء الرؤساء أكثر من الالتزام بواجباتهم تجاه المؤسسة ذاتها ومهام عملهم وإرضاء العملاء وهم 100 مليون مصري.المؤسسات المتعلمة هى الأكثر فعالية لأن كل من يعملون بها خاضعون للمحاسبة والتقييم، سواء كانوا جزءًا من فريق عمل أو مشروع أو برنامج. يجب على المؤسسات العامة أن تعى تمامًا ما حدث ويحدث من تطور ووضع خطط عاجلة لمواكبته قبل أن تعصف بها رياح التغيير التى لن ترحم. المصادر: https://hbr.org/1993/07/building-a-learning-organization https://www.forbes.com/sites/joshbersin/2012/01/18/5-keys-to-building-a-learning-organization/2/#59561135f450