فى مطلع الستينيات من القرن الماضى، أصبحت محررا فى مجلة «آخر ساعة». كان مصطفى أمين هو رئيس مجلس الإدارة، بعد قرار تنظيم الصحافة، الذى وضع الصحافة عمليا، تحت سيطرة الدولة، وكان أحمد بهاء الدين رئيسا لتحرير «آخر ساعة». خالد محيى الدين فى أخبار اليوم لم تكن الفترة التى تولى فيها بهاء الدين «آخر ساعة» طويلة، بضعة شهور ربما وعصف به تغيير، تولى بموجبه مسئولية دار الهلال، وتولى خالد محيى الدين رياسة مؤسسة أخبار اليوم. وليس أمامى التواريخ بالضبط. ولكن الفترة التى تولى فيها خالد محيى الدين، لم تكن طويلة بالقدر الكافى، ولم تكن لديه الفرصة أو الحرية، حتى ليترك بصمة ذات أثر، اللهم إلا سمعة زائفة، أن المؤسسة ستصطبغ باللون الأحمر, أى الشيوعى. ولم يكن هذا صحيحا، أو واردا. وبعد فترة وقع تغيير جديد، وبموجبه تم ضم الأهرام وأخبار اليوم فى كيان واحد، يرأسه محمد حسنين هيكل، وتولى يوسف السباعى رئاسة تحرير آخر ساعة. هذه التغييرات المتلاحقة والمتسارعة والمرتجلة.. والتى ليس لها هدف واضح، لا تترك إلا آثارا سلبية على بيئة العمل، ولا توفر أمانا أو استقرارا يتيح للمسئولين عنها، أو حتى للأفراد، فرصة بناء أنفسهم ومستقبلهم. ويصبح كل فرد مسئولا عن نفسه وخطته ومشروعه الخاص به. من بين هذه التغييرات، أذكر أن الفترة - الوجيزة أيضا - التى تولى فيها صلاح حافظ وسعد كامل مسئولية المجلة، الأول كمشرف على التحرير والثانى مديرا للتحرير، هى الفترة الوحيدة، خلال تلك المرحلة، التى حققت المجلة نجاحا، وتضاعف توزيعها، وبدأت ملامحها كمجلة مصورة مؤثرة يبحث عنها القراء. لماذا لا يقرأ العمال والفلاحون آخر ساعة؟ وكانت خبرة صلاح حافظ، ومواهبه، وراء هذا النجاح الذى لم يعمر كثيرا، فقد كان يحمل تصورا للواجب الذى يمكن أن تؤديه المجلة المصورة. وحقق ما يمكن أن يكون نجاحا، وسط تحديات عديدة ليس فقط من الحرس القديم، ولكن من اتجاه يتسم بالطفولة اليسارية، تأثر بالمناخ العام وشعارات الاشتراكية، ودعا إلى أن تثبت المجلة أنها مجلة العمال والفلاحين. وأذكر أن صلاح واجه هذا التطرف بوضوح وإقناع، ورد فى اجتماع للمجلة على أصحاب هذه الدعوة شارحا: إن العمال والفلاحين لا يقرأون آخر ساعة ولم يسمعوا بها، هى مجلة للطبقة المتوسطة، ولو نجحنا فى مخاطبة هذه الطبقة، ودعم وعيها، وتنبيهها إلى قيم التقدم والعصر، فهذا يكفى وزيادة، ثم أضاف: حتى الصين دولة العمال والفلاحين، فإن مجلة تصدر هناك قريبة من مجلتنا كنت أقلب فيها هذا الصباح، ولاحظت أنها أفردت عشر صفحات لأنواع الفراشات الملونة». فى السبعينيات بمناسبة تسجيل هذه الذكريات، حاولت أن أرجع للموضوعات التى نشرتها، خلال تلك الفترة فى العمر، فى المجلة، والتى استمرت إلى منتصف السبعينيات، واكتشفت أننى لا أحتفظ بأى عدد. ويبدو أن تركيزى كان منصبا على الإسهام فى أكثر من جبهة، واعتبر الإنجاز الصحفى انعكاسا للاهتمام العام، ويصب فيه وليس وسيلة للتفوق على الأقران وكسب نقاط. ولا يعنى هذا تخلصا من المسئولية، والتأخر عن أداء الواجب، فبنفس الروح التى بدأت بها فى شهور التمرين، تابعت محاولات بناء مجتمع جديد، فى مختلف الجبهات والإشادة بالجنود المجهولين، والكتابة عن كل من أصل إليهم، ممن يعملون فى صمت وتجرد. ومع بداية السبعينيات وبداية حكم السادات، أصبحنا فى حقبة جديدة، تميزت بانعزال المثقفين وغربتهم فى الداخل، أو فرارهم إلى الخارج. أنيس منصور وجو غير مريح وأصبح أنيس منصور رئيسا لتحرير آخر ساعة. وهو كاتب وصحفى قدير، ومن صحفيى الطبقة الأولى الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة. ولكنه ليس موهوبا فى إدارة الفريق الذى يعمل معه، بحيث تكون إدارة للتنوع والاختلاف بين أفراد الفريق. إنه يرى أن الموقع الذى يتولى قيادته يدور حوله، وينبع منه، ويعود إليه. ولا أنسى فى اللقاء الوحيد معه، أنه استطرد كأنما يحدث نفسه: أنت تتصور أننى رئيس تحرير، مهمتى أن أتابع الموضوعات، وأراجع ما يكتبه المحررون، وأعقد اجتماعات. إننى رئيس تحرير فقط ليظهر مقالى فى أفضل صورة ممكنة». لم تصدمنى كثيرا صراحته، بقدر ما كانت تشير إلى جو لم يعد مريحا. فى تلك المرحلة مع بداية عقد السبعينيات، كانت خيوط جديدة، تنسج سياسة وروحا مختلفة، لا تمت للتغيير الذى كنا نتمناه بصلة. لم أفكر فى الانتقال إلى مكان آخر، لم يكن ذلك فى خطتى، فمواقع العمل كلها متقاربة فى إمكانية الفرص المتاحة. والأهم أن الانتقال من صحيفة أو مجلة لأخرى ليس أمرا سهلا فى أى وقت. طبعا هناك قلة من الفلتات، ممن تتنافس المؤسسات وتفخر بانضمامهم، وهناك من ليس مطلوبا، ولكنه يسعى بطرقه الخاصة وإلحاحه أو تزلفه لتحقيق هذا المأرب. ولست من هؤلاء أو أولئك. ولكن ظروفا مواتية ساعدتنى. فقد كان صلاح حافظ قد عاد إلى «روزاليوسف» فى 1966.. وبعد تولى السادات السلطة ونجاحه فى التغلب على من سماهم «مراكز القوى»، أجرى تغييرات فى القيادات الصحفية، أصبح عبدالرحمن الشرقاوى رئيسا لروزاليوسف وحسن فؤاد رئيسا لتحرير صباح الخير. فى روزاليوسف كأننى مبتدئ واقترح عليّ الصديق سعد كامل أن يسعى لنقلى إلى صباح الخير. وكان يثق فى قدراتى وربما يقدر إمكانياتى بأكثر مما هى عليه. وكانت تربطه صداقة قوية وعمل مشترك فى الصحافة اليسارية مع حسن فؤاد فى الخمسينيات. ولم يمانع حسن فؤاد، ولكن مضى وقت طويل، قبل أن ينجح فى تحقيق المطلب. فمثل هذا الأمر لا يتم دون حسابات. ورغم أن حسن فؤاد، حصل على موافقة عبدالرحمن الشرقاوى ولويس جريس المدير العام إلا أنه قال لى شارحا: لا أفضل أن تنضم هكذا فجأة، إننا أشبه بورشة على أى وافد جديد أن يبدأ من البداية لا يهبط بالبراشوت ولابد أن يقبل الجسم، العضو الجديد، واقترح أن أعمل لفترة من الخارج، بالقطعة، أراجع الموضوعات، أكتب تحقيقات بدون توقيع. وعملت لشهور كأننى مبتدئ. لم يضايقنى هذا أبدا، بل التزمت به بسعادة، ولهذا تم نقلى من مؤسسة أخبار اليوم إلى مؤسسة «روزاليوسف» بسلاسة. والمعروف أن النقل عادة يتضمن زيادة كبيرة فى الراتب، لاسيما إذا تم إلى مؤسسة أغنى، و«روزاليوسف» لم تكن كذلك بالنسبة لأخبار اليوم. انتقلت بهدوء، دون أن أبدو أو أكون محمولا على كتف أحد، ولم يزد راتبى غير خمسة جنيهات. وأظن أن هذه البداية التى خطط لها بخبرته الواسعة حسن فؤاد، جعلت انسيابى فى نهر المجلة طبيعيا، لم يسبب لى ولا لغيرى أى درجة من المزاحمة والتنافس. القبض علىَّ فى صباح الخير فى ديسمبر 1974، انتقلت رسميا من آخر ساعة إلى صباح الخير. وبعد أقل من شهر، حدثت مفاجأة غير سارة. إذ تم القبض على مع عشرات آخرين، متهمين بالتخطيط وقيادة المظاهرات التى عرفت بانتفاضة يناير 75، بعد قرار رفع الأسعار. وأتذكر أن الإحساس الذى راودنى ليس عواقب القبض على ومواجهة السجن لأول مرة، ولكن جزءا من الصدمة، كان الخجل أن أبدأ القصيدة بهذا الكفر، وبدلا من أن أكون مفيدا للمجلة، هكذا أتحول إلى عبء. والمدهش أن هذه الهواجس، لم يكن لها أى ظل، كما تبينت فيما بعد، بعد الإفراج عنى بعد ستة شهور لا فى المجلة ولا فى المؤسسة ككل، بل على العكس كانت المشاعر تنم عن التعاطف والمساندة. وبعد الإفراج عنى كان اللقاء عاطفيا وحارا، وعلى عكس ما تصورت، فروح هذا المكان تختلف، فحس أبنائها مرهف نحو القضايا العامة والحريات، ربما قبس من روح السيدة فاطمة اليوسف التى أسستها. ولم أكن قد التقيت بالحاجة سعاد المدير المالى، ولكن حرارة استقبالها وفرحتها الصادقة طمأنتنى وهى تقول ضاحكة: أحضر الملف بتاعك وبعد أسبوعين تدخل السجن. وكان أمرا له دلالة، أنه حين تم القبض على ليلا، كنت نائما فى استراحة مصنع الألمونيوم بنجع حمادى، أعد تحقيقا عن الاستعداد لافتتاح المصنع الكبير، كواحد من ثمار بناء السد العالى، ومظهر لمسيرة التنمية. وبعد الإفراج عنى، كان أول ما نشرته باسمى تحقيقا عن المصنع، بعنوان «مهندس على نهر من الألمونيوم». دور حسن فؤاد وبسرعة وجدت مكانى. ولا بد أن أشيد بدور حسن فؤاد الأب والأستاذ، الذى كان يحتضن الكتيبة كلها، وأيضا بمساندة كل معاونيه من الكبار، وكذلك من أبناء جيلى، ولم أحس بأى غربة من أول لحظة، وبعدها بسنوات قال لى الشاعر فؤاد قاعود بعفوية: «أنت كأنك معانا فى صباح الخير من البداية». وكان تعبيره هذا صادرا من القلب. بهذه الروح التى بدأت بها، كانت السنوات التى تتالت.. الفرصة التى منحتنى إياها صباح الخير، فى النشاط الصحفى كانت أكبر وأرحب، تبينت ذلك بمرور الأيام، وأن الإحساس عندما كنت فى آخر ساعة أن بيئة العمل فى مختلف الصحف متقاربة، وهامش الحرية واحد، لم تكن صحيحة تماما، كانت المجلة تتيح لكتابها وصحفييها إظهار قدراتهم وتجويد ما ينجزون. مع كامل زهيرى وآخر الهامش المُتاح لا أنسى أننى قابلت ذات يوم كامل زهيرى نقيب الصحفيين الأشهر، صدفة، فى شارع قصر العينى قريبا من «روزاليوسف»، ولم أكن من القريبين منه، ولكنه كان يعتبر معظم الصحفيين الأصغر منه زملاء له، وتحادثنا عن أحوال الصحافة وسأل عن صباح الخير وروزاليوسف، وقد عمل بهما ويعرفهما جيدا، ويبدو أنه كان لديه وقت، وأحسست أنه يريد أن أصحبه وكعادته شرح تاريخ الأماكن والشوارع التى مررنا بها، وحين تحدث عن تصوره لمستقبل الصحافة وقتها وجدته يقول: «على أى حال أنت فيما تكتبه تصل إلى آخر الهامش المتاح»، لم أتصور أن كاتبا كبيرا مثله، يجد الوقت حتى ليقرأ لى، فضلا عن مثل هذا التقييم، الذى فاجأنى، بل أحسست أنه أشبه بجائزة كبيرة حصلت عليها. يهمنى أن أذكرك أننى لم أنس السؤال الذى وضعته فى صدر هذه الحلقات، عن حصاد هذه السنوات، وأرجو ألا تكون أنت قد نسيته، وقد اقتربت من محاولة الإجابة عنه. وإذا لم يكن لدى أى أعداد أحتفظ بها لآخر ساعة، وأن البحث عنها ليس يسيرا، فإننى لم أكن أيضا أحتفظ إلا ببعض أعداد مجلة صباح الخير، خلال أكثر من أربعين سنة فى رحابها. ولكننى بذلت محاولات ليست سهلة، للبحث فى أرشيف المجلة، وفى الأعداد القديمة فى مخزن قليوب، وتوصلت إلى عدد لا بأس به. جمعت نحو ثلاثمائة موضوع عبر هذه السنوات هى التى نجحت فى التوصل إليها. قراءة ثانية أعدت قراءة هذه الموضوعات. يمكن أن يكون الكم قليلا، وطبعا حجم العمل له دور فى التقييم.. ولكن لنترك هذه النقطة جانبا. بعض الأسماء والوقائع التى تضمنتها الموضوعات، ضاعت من ذاكرتى، ولكن قلب الموضوع لايزال يمس الاهتمام ويشغل الذهن. والبعض قرأته بشوق وتركيز، كأنى أقرأه لأول مرة، وكأننى لست أنا كاتبه، بل بعض هذا البعض قرأته أكثر من مرة. وموضوعات تمنيت لو توافرت عليها أكثر، واستكملت بعض جوانبها، مثل ما كتبته عن أحمد عثمان الشربينى مدرس اللغة العربية المتمكن، ورحلته المهيبة للتعلم فى الأزهر، ودور الجيل الذى سبقه إلى الأزهر، ولم يكمل دراسته وعاد إلى القرية، وكان هذا الجيل السابق يهمه أن جيلا بعدهم يكمل دراسته.. إنهم ملح الأرض. أكثر من موضوع، تمنيت لو قرأه، اليوم آخرون، من أجيال معاصرة، ليعرفوا آباءهم، مثل ما كتبته عن فتحى رضوان، إثر وفاته، أو يعقوب الشارونى، الذى لو طلب منى اليوم أن أكتب عنه ما استطعت، الموضوع مليء بالتفاصيل والوقائع، ويقدم صورة لرجل يقترب من التسعين، ولايزال مشغولا بالطفل المصرى وثقافته ووعيه، كأنه وزارة بكاملها. وكتبت عن الدكتور محمود قاسم، بعد وفاته بعشرين عاما، وذلك بمناسبة صدور طبعة جديدة من كتاب له، قرأته منذ عشرات السنين، وأحسست أنه يستحق أن يقرأ فى كل وقت، وعنوانه «الإسلام بين أمسه وغده»، والكتاب واحد من منجزات عديدة فى الفكر الإسلامى، وتجديده، تضعه فى مصاف كبار الباحثين. توقفت أمام صفحة واحدة، نوهت فيها «بالوثيقة المصرية لأخلاقيات المهن الطبية»، وضعها ثمانية من كبار الأطباء والعلماء، بينهم مصطفى سويف، ظلوا يعملون لإعدادها، ثلاث سنوات، يجتمعون أسبوعيا، حتى صدرت فى 300 صفحة، حين قرأت اليوم هذا التنويه شعرت أن هذا الإنجاز يجب أن يمتحن فيه كل طالب طب، قبل أن يحصل على شهادة البكالوريوس. إن هؤلاء الثمانية الأبرار، قاموا بهذا الواجب، لم يكسبوا من ورائه شيئا، ولم يكلفهم أحد به، قاموا به لوجه الله والوطن ومستقبله. • ونتابع.