يتردد كثيرا هذه الأيام هتاف: الصحافة فى خطر. والمقصود هنا الصحف المطبوعة فى كل مكان فى العالم، وأكثر من يشعرون بالخطر هم أصحاب الصحف، وبارونات الصحافة العالمية وأشهرهم «روبرت ميردوخ» الذى يمتلك صحفا شهيرة فى عدد من دول العالم منها أمريكا وبريطانيا وأستراليا، والذى صرح أكثر من مرة بأن الجريدة اليومية الورقية فى طريقها إلى الزوال. وأنها ستصبح قريبا «شيئا من الماضى»، وأن المستقبل - بالطبع - كما يرى هو وغيره من ملاك الصحف، ل«الديجيتال» أى الصحافة الإلكترونية، صحافة الإنترنت. لكن الحقيقة غير ذلك.. صحيح أن أرقام توزيع الصحف وإقبال الناس على شرائها هبط فى كل أنحاء العالم بسبب سرعة انتشار الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية وأيضا تداول الأخبار والصور والفيديو عبر شبكات التواصل الاجتماعى «فيس بوك» و«تويتر» و«يوتيوب» و«إنستجرام» وغيرها. وصحيح أن الإعلانات التى تعتبر أهم موارد دخل الصحف، قد قلت بشكل ملحوظ، وتحول اهتمام المعلنين إلى الإنترنت بجمهوره الواسع الذى يتعدى مئات الملايين، بل أكثر، لكن الصحافة المطبوعة على الورق لم تمت. انكمشت طبعا لأنها تواجه هذا التحدى الإلكترونى المرعب. التحدى الحقيقى والتحدى الحقيقى للصحافة الورقية هو فى البحث عن أساليب ووسائل وفنون تجذب إليها جمهور القراء بأعداد كافية لمدها بماء ودماء الحياة، هذا التحدى قائم رغم أن هناك من يصمم على نهاية الصحافة تماما، فها هو «بيل جيتس» مؤسس ورئيس شركة «مايكروسوفت» الرائدة فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يتوقع أن تسيطر شبكة الإنترنت على صناعة نشر وتداول الأخبار والمعلومات والآراء - أى الصحافة - وأنه سيأتى وقت قريب لنجد أن الصحافة الورقية قد اختفت بلا عودة.. ولن يكون هناك من يشغل نفسه بطبع وتوزيع الصحف الورقية. وهو يجزم بذلك بناء على تقديره لمعدل انطلاق الإنترنت واتساع دائرة الاعتماد عليه فى عديد من مجالات الحياة اليومية، وأيضا لتغير أنماط الحياة اليومية ونظم العمل وأساليب شغل أوقات الفراغ، ونمو جيل جديد نشأ على التواصل ومتابعة كل شىء من خلال العالم الإلكترونى وأدواته المتعددة والمتجددة التى يستغرق فى الارتباط بها بشكل يمثل نوعا جديدا من الإدمان.. جيل لم ينشأ على مطالعة الصحف، ولا يحتاج إلى الجريدة المطبوعة على الورق. لكن لو تذكرنا أن «بيل جيتس» قال هذا الكلام ضمن محاضرة له منذ أكثر من عشر سنوات، وتنبأ بموت الجريدة اليومية والمجلة وكل ما هو صحف ورقية مع حلول عام 2011 فسنعرف كم كانت نبوءته هذه قائمة على مبالغة واضحة، فقد مرت على الموعد الذى تنبأ به ست سنوات ولاتزال الصحافة حية ترزق، لكن مع ذلك فيجب ألا نتجاهل أن الخطر قائم.. خاصة أن الصحافة الورقية لم تصل بعد إلى «الوصفة السحرية» التى تحتاج إليها لتبقى.. وتتجاوز هذا الخطر. بارونات باعوا صحفهم وكلام بارونات الصحافة العالمية المتكرر الآن عن قرب نهايتها، يذكرنا بمخاوف عاناها أسلافهم من أصحاب الصحف فى بلاد الغرب، أمريكا وبريطانيا وغيرهما، فى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين وبداية الستينيات، عندما ظهر التليفزيون لأول مرة وبدا كمنافس سيقضى على الصحافة بالضربة القاضية. تعالت وقتها صيحات تعكس رعب بارونات الصحافة، حتى إن بعضهم باع صحفه، لكن البعض الآخر كان أذكى من ذلك، وفكر فى طرق تتيح للصحف والمجلات التحايل على الانقلاب الذى أحدثه ظهور التليفزيون والإقبال الرهيب عليه من كل الناس.. وتوصلوا إلى حلول أنقذت الصحافة من موت كان متوقعا. ومن هذه الحلول كان التحايل على التليفزيون بأن تنشر الصحف دليل البرامج وحكاياتها وأسرارها، وتفرد مساحات تتناول هذه البرامج بالعرض والنقد والتعريف بالمذيعين والمذيعات، ومن جهة أخرى كان التليفزيون ولايزال يحتاج إلى الصحافة والصحفيين لتقديم برامجه والترويج لها وإعدادها وأيضا تقديم برامج عن أقوال الصحف وأخبارها وأسرارها، كما أن الصحافة اهتمت بإبراز الصورة كعنصر فعال على صفحاتها. وأيضا تم تطوير الصحف بحيث تكون كل صفحاتها ملونة، وأيضا اهتمت الصحف بالتوسع فى نشر «ما وراء الخبر» بالتحليل والسيناريوهات المتوقعة والخلفيات التى لا يتاح لنشرات الأخبار فى التليفزيون مجال لعرضها. الجريدة اليومية «فى خبر كان»! ومن يتابع التحديات التى واجهت الصحافة على مدى تاريخها سيطلع على شىء مشابه حدث عندما ظهر الراديو لأول مرة منذ نحو مئة سنة وانطلقت الإذاعة ولم يعد الناس يحتاجون لدفع مبالغ يومية لشراء الجريدة ومتابعة الأخبار والأحداث، فقد وفر لهم الراديو كل هذا بالمجان.. ليس هذا فقط، بل أعفاهم أيضا من عناء القراءة وأتاح خدمة «صحفية» مجانية لمن لا يستطيع القراءة! وزاد التحدى مع ظهور «الترانزستور» الراديو الصغير الذى يمكنك أن تحمله معك فى أى مكان. وهكذا كانت الإذاعة أول تحدٍ كبير واجهته الصحافة، فبظهور الإذاعة كقوة تأثير إعلامية بالغة، تخطت الصحافة واجتذبت أوسع الجماهير، ثارت مخاوف صناع الصحف وأصحابها، خاصة عندما انتقل إقبال المعلنين من نشر إعلاناتهم فى الصحف إلى الراديو.. استشاط صناع الصحف غضبا حتى إنهم فى البداية قرروا مقاطعة الإذاعات بعدم نشر جداول برامجها اليومية، وعدم الإشارة إليها فى الأخبار والمواد المنشورة فى صحفهم. فى ذلك الوقت شاع بين الناس أن الصحافة انتهت.. وأن الجريدة اليومية أصبحت «فى خبر كان» وأنها تعيش أيامها الأخيرة، كان ذلك فى عشرينيات القرن العشرين، لكن الصحافة اليومية وكل أنواع الصحافة الورقية صمدت، بل ازدهرت واتسعت إصداراتها ومجالاتها وفنونها واهتماماتها وأساليب إنجازها وإخراجها.. وطباعتها، فبعد فترة من القلق واضطراب التفكير، تمكن المبدعون فى صناعة الصحافة من تطوير الصحف فتمكنت من تجاوز خطر الإذاعة الداهم بنجاح، مع أن أصحاب الصحف وقتها أصابهم رعب حقيقى وباع منهم من باع صحفه، بينما صمد من أعطوا للصحافة وقتها، عمرا جديدا، ولجأوا إلى حيل عديدة هى تقريبا التى استخدمت فيما بعد فى مواجهة ظهور التليفزيون. لكن ما العمل الآن؟.. المواجهة مع التحدى الإلكترونى أصعب والقفزات التى تحققها ثورة تكنولوجيا الاتصالات «الديجيتال» متسارعة ومتطورة، فأنت الآن تصلك أخبار العالم كله فى لحظة وقوعها، ليس على شاشة الكمبيوتر فقط، ولكن على التليفون أيضا.. وهناك الآن ساعات يد ذكية مبتكرة تبث الأخبار فورا، وتنبهك لحدوثها بإشارات تصدرها بالصوت والضوء! فما العمل؟.. هل تموت الصحافة الورقية؟! لو تابعنا الأمر بشىء من التدقيق سنجد أن تكنولوجيا الاتصالات الإلكترونية مشغولة بتطوير الصحافة الورقية أيضا، فهناك تجارب وأبحاث لم تكتمل بعد، يقوم بها معمل جامعة كامبريدج البريطانية منذ سنوات، تعمل على ابتكار صحف مصنوعة من خامات جديدة يمكنك أن تتعامل معها كما لو كانت ورقا، أى أنها قابلة للطى ويمكن الاحتفاظ بها فى يدك أو على المكتب أو فى جيبك أو فى الشنطة، ويمكنك قراءتها فى أى مكان، كالجريدة الورقية تماما، لكنها متصلة لاسلكيا بمراكز بث إلكترونية تنشر عليها الأخبار والصور، وربما الأصوات، لحظة بلحظة فور وقوع الحدث! فهل سيكون هذا مستقبل الصحافة؟!.. لننتظر ونرى.• فى الأسبوع المقبل نكمل.