لم تعرف مصر فى تاريخها الاقتصادى الحديث معنى التواصل مع إفريقيا إلا من خلال شركة النصر للتصدير والاستيراد التى جرى إنشاؤها فى عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من أجل إقامة علاقات ذات جذور قوية مع دول القارة السمراء لتكون ظهيرا قويا يحمى أمن أرض الكنانة فى إفريقيا. ولا يمكن نسيان الدور الحقيقى الذى قام به ضابط الجيش محمد غانم الذى رفض العمل فى السلك الدبلوماسى من أجل تنفيذ فكرته بإنشاء الشركة وذلك بعد أن وافق عليها الرئيس جمال عبدالناصر وتحمس لها فى الوقت الذى واجهت فيه الكثير من المعوقات فى بدايتها وكان هناك إصرار على أن يجرى وضع كلمة التصدير أولا قبل الاستيراد كى يدل الاسم على الهدف الرئيسى من ورائها خاصة أن كل منطقة فى القارة السمراء لها أهميتها الكبيرة سواء فى السودان أو دول غرب وجنوب إفريقيا وحوض النيل. • النشأة وكان لدور رجل المخابرات المصرى السابق محمد غانم دور كبير فى إنشاء شركة النصر للتصدير والاستيراد، فهى فكرته من الأساس وجاهد كثيرا كى تصل إلى دوائر صنع القرار واتخاذ قرار الموافقة عليها من جانب الزعيم جمال عبدالناصر، الذى كان يدرك حجم الاتجاه نحو القارة السمراء. وفى عام 1958 جرى إنشاء الشركة تحت اسم «محمد غانم وشركاه» باعتبارها إحدى شركات القطاع الخاص وكان رأس مال الشركة وقتها 25 ألف جنيه ومع صدور القوانين الاشتراكية جرى تأميمها وضم عددا من المكاتب لها ليتغير الاسم إلى «شركة النصر للتصدير والاستيراد» وأصبح رأس مالها مليون جنيه. ووضع غانم خطة العمل على إنشاء الشركة ورصد 250 ألف دولار لكل فرع يقام فى القارة السمراء وعندما عرض على حسن عباس زكى وزير الاقتصاد وقتها انتفض الرجل من حجم المبلغ المرصود فى الوقت الذى كانت تحتاج فيه مصر إلى العملة الصعبة من أجل شراء السلاح ومواجهة المخاطر المحيطة بها سواء داخلية أو خارجية. وجرى الاتفاق بعدها على أن يحصل غانم على 25 ألف دولار لكل فرع وبذلك جرى تخفيض المبلغ المرصود ليكون 10% فقط وعندما ذهب إلى مدير النقد وقتها عبدالحفيظ فودة أكد له أنه من المستحيل الحصول على هذا المبلغ وأن المتوفر حاليا عشرة آلاف دولار لكل فرع فقط فرضى الرجل بها. وبدأ غانم التفكير فى الدخول بقوة فى القارة السمراء وهنا كان يجب العمل بشكل دورى على تنمية موارد الشركة من أجل الحصول على أموال لزيادة عدد الأفرع وجرى ذلك بالاتفاق مع وزير المالية على فتح حساب فى البنك الأهلى فرع بيروت من أجل توفير العملة الصعبة لإنشاء الأفرع فى القارة السمراء. وامتلك غانم حسا دعائيا بعد دراسة متأنية للقارة السمراء فاختار مواقع الأفرع فى المدن الرئيسية فى إفريقيا التى تطل على موانئ بحرية ولجأ إلى المبانى العالية والمرتفعة كى تلفت انتباه المارة وتدعوهم للتساؤل عن المبانى الكبيرة والشاهقة ومن الذى يملكها وفى أى مجال تعمل. وكان مبنى الشركة فى النيجر هو الأعلى على الإطلاق حيث إن المبانى لا ترتفع على طابقين بأى حال من الأحوال وفى مدينة أبيدجان بساحل العاج كان مبنى الشركة على برج ارتفاعه 17 دورا وهناك لافتة كبيرة تحمل اسم الشركة ويراها أهل البلاد من أى اتجاه وهو أسلوب قوى فى الدعاية. ورغم التوسع الكبير الذى ظهر على الشركة كان خلف مكاتبها 120 رجلاً مصرياً يدركون الهدف والغاية من وراء إنشاء الشركة والعمل سريعا لتحقيق أرباح حتى أنهم رفضوا الحصول على رواتبهم من أجل زيادة أرصدة الشركة ونموها كى تنتشر أكثر وأعمق فى الوقت الذى كانت إسرائيل تحاول بشتى الطرق التوغل فى القارة السمراء من أجل إقامة علاقات هناك فى الوقت الذى انتشرت فيه الدول الأوروبية كمحتلة لأغلب الدول هناك من أجل الاستفادة من الثروات الطبيعية هناك وضياعها على أصحاب الأرض. • النشاط لا يمكن حصر إنجازات شركة النصر للتصدير والاستيراد فى مجرد كلمات أو سطور أو صفحات، حيث كان هناك الكثير من العمليات الناجحة التى استطاعت من خلالها النفاذ عبر النسيج الإفريقى من خلال دراسة متأنية للأوضاع هناك.. ومع حصول زامبيا على استقلالها عقب سنوات من الاحتلال كان هناك شركتان من إنجلترا تحصلان على النحاس مقابل 600 جنيه استرلينى للطن، على اعتبار أن هذا هو سعره العادل فى ذلك التوقيت فى الوقت الذى كان يباع فى بورصة لندن مقابل 800 جنيه استرلينى وهنا تحرك محمد غانم ليقنع أصحاب الأرض بضرورة الحصول على النحاس وأن لديه سعرا تفضيليا أكبر مما تدفعه الشركتان وحينها دفع 700 جنيه استرلينى واستطاع الحصول على صفقة كبيرة من وراء هذا التحرك فى الوقت الذى كانت تبسط فيه إنجلترا نفوذها على أغلب الدول الإفريقية فى الوقت الذى كانت مصر تدعم علاقاتها مع زامبيا ورئيسها الجديد كينيس كاوندا من خلال دعم حركات الاستقلال والتحرر هناك. وفى نيجيريا نجحت شركة النصر فى إقناع المسئولين هناك بإمكانية صناعة الزيت على أراضيهم وتصديره للخارج فى الوقت الذى كانت تحتكر فيه بريطانيا هذه التجارة، وبعد فترة من الشد والجذب والإقناع نجحت مصر فى تصدير الزيوت من نيجيريا إلى فرنسا، وهنا خرجت الصحف فى البلاد لتؤكد أنها بالفعل تستطيع الدخول فى الصناعة واعترفت بالدور المصرى وقتها. أما فى مجال التصدير فقد كان الأرز المصرى حكاية خاصة فى شركة النصر للتصدير والاستيراد، حيث ضغط جمال سالم وزير التخطيط وقتها على محمد غانم من أجل تصدير الأرز إلى إفريقيا ولأن الأرز المصرى له طبيعة خاصة، حيث يحتاج إلى طريقة معينة فى النضج إذا ما خالفها الطهاة تغير قوامه وشكله فكان طبيعيا، فلجأ رئيس الشركة إلى مساعديه واستطاع التواصل مع برامج التليفزيون وقتها وشرح كيفية طهى الأرز المصرى اللذيذ بسهولة وبعدها جرى تصديره فى الكثير من دول القارة. • سياسة رغم أن الطابع السياسى لمصر وقتها كان الانفتاح على إفريقيا فإن الأمر لم يكن سهلا بالمرة فوجود الكثير من الدول العظمى فى القارة السمراء فضلا عن دخول إسرائيل اللعبة مبكرا جعل من الصعب الحصول على بعض الراحة فى العمل داخل شركة النصر للتصدير والاستيراد وكانت العاصمة الغانية أكرا محلا للصراع «المصرى الإسرائيلى» فى المجال التجارى ووقتها كانت بلدية أكرا تملك حق إيجار لافتة كبيرة للغاية فى ميدان يصل إليه مئات الآلاف من الغانيين يوميا وبالتالى كان فرصة ذهبية للدعاية وقد عرضت مصر وقتها الحصول على اللافتة وفى الوقت نفسه تنافست شركة ديزنكوف الإسرائيلية للحصول عليها وفى ظل الصراع المالى الشديد بين الطرفين حسم الرئيس الغانى نكروما الصراع ومنح اللافتة لمصر استغلالا للعلاقات بين مصر وغانا حيث يتزوج الرئيس من امرأة مصرية ولديه منها أطفال فضلا عن علاقته الجيدة بالرئيس المصرى جمال عبدالناصر وهو ما يمثل ثقل مصر وقوتها وقدرتها على احتواء الأفارقة. وكانت شركة النصر تقوم بدور وطنى من خلال إرسال السلاح إلى حركات المقاومة والتحرر فى أفريقيا وهو ما ساعدها فى الخروج من براثن الاستعمار الذى مص دماءها وهدد ثرواتها ودمر الكثير من مواردها الطبيعية. وفى فترة تولى الدكتور عاطف عبيد رئاسة وزراء مصر كان التفكير يتجه نحو بيع فرع الشركة فى أبيدجان بساحل العاج، وهو ما أزعج محمد غانم وقتها.. فرغم خروجه من الشركة فإن إدراكه بقيمة الفرع والمجهود الكبير المبذول فيها دفعه للذهاب إلى مجلس الشعب وقتها من أجل عرض قيمة المبنى وما يمثله بالنسبة لمصر فى إفريقيا.. وجرى وقف قرار البيع على الفور. • تعليق وأضاف شقوير إن أكبر الشوارع فى أكرا يحمل اسم الزعيم المصرى جمال عبدالناصر وهو ما يؤكد حجم المحبة التى يتمتع بها هذا الرجل هناك فى الوقت الذى توجد بعض القرى فى القارة السمراء تحمل اسم «ناصر» تخليدا للدور الذى أداه تجاه بناء هذه الدول. وأوضح شقوير أن الزعيم جمال عبدالناصر كان يرسل السلاح إلى إفريقيا عبر شركة النصر من أجل مساندة حركات التحرر فى الحصول على حقوقها من الاستعمار الذى نال منها واستنزف ثرواتها. وتابع شقوير قائلا: إنه لو جرى الاهتمام بإفريقيا واستكمال ما بدأه الرئيس جمال عبدالناصر لما رأينا مشكلة مثل سد النهضة فى إثيوبيا يمكن أن تؤثر على نسبة المياه التى تحصل عليها مصر باعتبارها آخر دول المصب. واختتم شقوير حديثه بأن الاتجاه الآن نحو إفريقيا خطوة تأخرت كثيرا خاصة أن العمل على بناء الكثير من مراكز نقل البضائع إلى هناك سيساهم فى زيادة حجم التجارة فى الوقت الذى يمكن فيه تفعيل اتفاقية الكوميسا لإلغاء الجمارك بين دول القارة السمراء من أجل دعم العلاقات وزيادة النشاط التجارى. •