أنا من قراء جريدة «وطنى» الأسبوعية المستقلة.. وإنى إذ أخص هذه الصحيفة بالذكر، فلأننى أعتقد أنك ربما لا تعرفها ولم تقرأها يوما.. رغم أنها احتفلت بعيد ميلادها الخامس والخمسين منذ وقت قريب.. وهذه المطبوعة تنطق بلسان المصريين الأقباط.. ولكنها ليست مطبوعة دينية، تركز على أمور العقيدة، فهناك مطبوعات أخرى دينية، أما «وطنى» فصحيفة عامة، تتابع الأخبار والقضايا والموضوعات العامة، وتغطى مختلف المجالات، ويكتب فيها مسلمون ومسيحيون، وشئون العقيدة تشغل حيزا ليس كبيرا فى صفحاتها..وحين تتناول المشكلات والهموم التى تشغل بال الأقباط، وتتقاطع مع شركائهم فى الوطن أو مع الدولة، فإن تناولها يأتى بروح المواطنة، والتمسك بالقانون، والحرص على المصلحة العامة. أكرر أنها صحيفة عامة، تخدم القارئ وتلبى احتياجاته، بل إن الصفحة الخارجية تتفوق أحيانا على كثير من الصحف الأشهر والأقدم.
وكان يمكن أن يكون لهذه الصحيفة دور كبير فى معرفة الآخر، لو عرفها الآخر الثانى، وقدرها حق قدرها.
وأستطيع أن أؤكد، دون الاعتماد على معلومات موثقة، أو نتائج بحوث أن قليلين جدا من المسلمين، يقرأونها، حتى وسط النخبة، المفروض أن تشغلها الأمور الوطنية والتقدم الاجتماعى والمعرفة العامة.
ومعهم الحق كل الحق، كثير من الكتاب والمفكرين المسيحيين الذين يشكون من قلة معرفة إخوانهم المسلمين بالمسيحية، وتاريخها وأعلامها وشهدائها.
بينما يعرف المسيحيون فى المقابل الكثير عن الإسلام وتاريخه وأبطاله، ويحفظون أحيانا آيات من القرآن، بسبب المقررات الدراسية.
وآخر من عبر عن هذه الشكوى وقرأت ملاحظته فى «وطنى»، ما كتبه الدكتور صبرى جوهرة - أستاذ جراحة القلب بكلية الطب بأوهايو - وهو مهاجر مصرى فى أمريكا منذ 1964: «مَنْ مِنَ المصريين المسلمين يعلم من هو أورجانوس وأكليمونوس وإثناسيوس أو كيرلس الأول أو أنطونيوس الكبير أو حتى كيرلس الرابع أو السادس؟ هؤلاء الرجال العظام الذين أنجبتهم مصر وذاع صيتهم فى كل العالم ما عدا مصر».
وقد قرأت هذا المقتطف فى رثائه بمناسبة وفاته مؤخرا.
وبالنسبة لى، فإن فضل هذه الصحيفة على أنها أتاحت لى معرفة ما يجب على المصرى المسلم أن يعرفه عن إخوته.
طبعا ليس إلى درجة معرفة أورجانوس وإكليمونوس التى يطالبنا بها صبرى جوهرة رحمه الله! وليس المطلوب التبحر فى المعرفة، فهذا ليس مطلوبا، وليس فى استطاعة كل الناس، ولكن المطلوب المعلومات الأساسية والعناوين الكبيرة.
ولا أنسى منذ سنوات بعيدة، كنت فى طريقى لحضور مناسبة عامة فى الكاتدرائية، وفى الطريق إليها تبادلت الحديث مع سيدة كانت تقصد نفس المكان، وجاء على لسانى ذكر «إثناسيوس» هكذا مجردا، دون أن يسبقه لقب القديس أو أبونا، ونظرت إلىّ تسألنى عن ديانتى، ويبدو أنها تصورت أننى مسيحى، وقلت لها كيف عرفت؟ فقالت لأننا «نحن لا نقول «إثناسيوس» هكذا، فهو قديس عظيم ودوره هائل فى تاريخنا، وهو الذى صاغ قانون الإيمان المسيحى، الذى تؤمن به كل كنائس العالم إلى اليوم.
وكان كل حديثها عنه، جديدا على سمعى.
وقد عرفت فى الصحيفة الجادة بعض المعالم المهمة: سبت لعازر، أحد الشعانين، أسبوع الآلام، مجلس السهندريم «لا تسألنى ما هو لأننى نسيت» قصة يهوذا، المريمات، وعرفت كيف يمتزج تاريخهم بتاريخ الوطن تقدما وتراجعا، وإذا كانت أول مطبعة تلك التى أحضرها نابليون معه، والثانية أحضرتها الحكومة، فإن الثالثة أحضرها البابا كيرلس الرابع، وهو الذى افتتح أول مدرسة للبنات فى مصر، وينسب إليه فتح مدارس الكنيسة لجميع المصريين دون تفرقة.
∎ يوسف سيدهم
وبهذه المناسبة أود أن أقدم لك أحد كتابها المجيدين.
وهو فى نفس الوقت صاحب الصحيفة الحالى ورئيس التحرير يوسف سيدهم.
أقدمه لك دون أن أعرفه أو ألتقى به يوما، وإنما اعتمادا على ما يكتبه فى الصحيفة. وقد اختار لمقالاته الأخيرة عنوانا ثابتا فرعيا هو «المسكوت عنه» وقد قاربت الحلقات تحت هذا العنوان خمسمائة حلقة.
وكثير من هذه الحلقات، تتناول الملف القبطى، أو المظالم التى يعانى منها الأقباط، أو حقوق الأقباط، أو المشكلة الطائفية، أو أى اسم آخر، ولكن التوصيف الذى اختاره هو «حقوق المواطنة».
فتعبير «حقوق الأقباط» ينصرف إلى طرفين، وأن على أحدهما الموافقة على حقوق الآخر. أما تعبير حقوق «المواطنة» فينصرف إلى معيار مشترك يحتكم إليه كلاهما.
فالبوصلة التى فى يده وهو يعرض للمطالب هى الاحتكام إلى المواطنة التى تفرض المساواة بين كل المواطنين، فى الحقوق والواجبات، وأنهم جميعا سواء أمام القانون.
تلك القيم التى نجحنا فى إرسائها وغرس شجرتها، منذ قيام الدولة الحديثة فى مصر، على امتداد مائتى عام.
ورغم النكسات التى تواجهها أحيانا، فإننا مطالبون جميعا بشرف الدفاع عنها وتوسيع آفاقها، فهى وحدها ضمان نجاتنا من الفقر والتمزق وغياهب التخلف.
فمن منطلق المواطنة، يكشف عن معاناة الأقباط، وانعدام المساواة فى مجالات مختلفة، وليس بنفس طائفى أو متطرف أو تهديد بالاستقواء بالغير.
و«المسكوت عنه» عنوان دقيق، تعبيرا عن مضمون كل مقال، فهو يتناول فيه وقائع وأحداثا محددة بالأسماء والعناوين والوثائق.
ولا يلجأ إلى الصرخات والشعارات والتعميمات والاتهامات العامة المرسلة.
كما ينفر من تكرار خطاب النسيج الواحد والأخوة التى لا تنفصم، والعلاقة الأزلية والاكتفاء بعزف هذه النغمة، دون نظر إلى الجراح التي تدمى الأخ الآخر.
إن الأحاديث التى لا تمس صلب الموضوع وتكتفى بالجوانب السطحية والهامشية، والتجميلية ليست من سمات هذا العمود الصحفى الرصين.
أما الدخول فى صلب الموضوع، والإحاطة بالوقائع، وتقصى الأسباب، وتحديد المسئولية، والإشارة إلى أصحابها بالاسم والعنوان، فهذه كلها من نصيب هذا القلم.
∎ احتقان نعم
و«المسكوت عنه» فى رأى يوسف سيدهم أن هناك احتقانا طائفيا.
ولكن هناك محاولات دءوبة لتجنب الاعتراف بهذا الواقع، ووضع اليد على أسبابه، والعمل على الخروج من هذه المحنة.
وبسبب هذه السياسة القصيرة النظر، تزداد وتيرة الاحتقان ومداه ورقعة انتشاره وتتعمق الجراح.
حتى أصبح العنف أخطر تجليات هذا الاحتقان، وتعددت أنماط العنف التى يواجهها الأقباط من استهداف الكنائس إلى حوادث الانتقام الجماعى إلى القتل المتعمد.
والمقالات التى تتناول الحوادث، التى تندرج تحت تلك الأوصاف يعجب المرء كيف تعودنا عليها وأصبحت أمرا عاديا، وتمر علينا مرور الكرام، وكيف تتوانى فى مواجهة أسبابها واللجوء إلى القانون فى معاقبة مرتكبيها.
وسألخص نماذج من هذه الوقائع:
∎ الدكتور عادل غالى رئيس شعبة العلوم النووية الأساسية بمركز البحوث النووية بهيئة الطاقة الذرية، استبعد من منصب رئيس الهيئة، رغم كونه المرشح الأول طبقا لأقدميته، وتكرر الأمر عندما تأهل لمنصب رئيس مركز البحوث النووية، باعتباره أقدم وأول المرشحين، وعندما تقدم بشكواه للمستويات الأعلى، قيل له: «هذا المنصب ليس للأقباط»!
∎ خصص أكثر من عمود لما يحدث فى جامعة أسيوط، واجتزئ من هذه الحلقات إشارته إلى إهدار حقوق المسيحيين فى التعيين فى عضوية هيئة التدريس التى يستحقونها، ويذكر أن عدد الطلبة المسجلين فى الجامعة فى أحد الأعوام كان يزيد على 72 ألف طالب، من بينهم ما يزيد على عشرة آلاف مسيحى بنسبة 28٪ «بسبب تركز العدد الأكبر من المسيحيين فى هذه المنطقة من صعيد مصر»، ورغم هذه النسبة العالية فإن عددهم بين أعضاء هيئة التدريس هو 15 من 2011 أى بنسبة 0.57٪.
وقد عرض لكتاب «الولاء والبراء فى الإسلام» وهو كتيب يوزع مجانا فى وسائل المواصلات، من تأليف الشيخ صالح بن فوزان! وفيه فتوى تحرم موالاة أهل الكتاب، أو مشاركتهم فى أعيادهم أو تهنئتهم أو مساعدتهم على إقامتها أو حضورها.
∎ وكذلك خطب إمام أحد مساجد مدينة طهطا وهو دائم التعرض للديانة المسيحية ومثبت فى مئذنة المسجد ثمانية مكبرات صوت تحمل صوته إلى كل الفضاء العريض.
إن الملف الذى يحمله الكاتب الزميل يحفل بأمثلة كثيرة.
وآثرت أن أضع أمام عينيك أمثلة لوقائع تبدو فردية، لكنها فى الواقع تكشف عن المناخ العام الذى يتشكل منذ صعود تيار الإسلام السياسى فى السبعينيات، والذى سمح بمرور هذه الانتهاكات والتنازل أمامها وهى التى تمهد لتجاوزات أشد وأخطر وتصنع فجوة يصعب التغلب عليها.
ومن بين ثلاث حلقات عن المشكلات التى يواجهها الأقباط فى مغاغة والعدوة أقتبس بضعة سطور:
∎ مشكلة كنيسة السيدة العذراء والملاك غبريال بقرية صفانية مركز العدوة، أنه لا يوجد بها دورات مياه «وهو يعجب كيف يتم بناء كنيسة دون دورات مياه»، ولكن مهما يكن السبب، فإن القائمين أرادوا تدارك الأمر، وتقدموا بطلب الموافقة على إضافة دورات المياه، وتقدموا بطلب فى 2006، ثم كتب فى 2010 وها هم يحتفلون بمرور أربع سنوات على تقديم الطلب فى انتظار الموافقات اللازمة لدورات المياه، بكل ما يسببه هذا من صعوبات وحرج بالغ للمترددين على الكنيسة!
ويحق أن نتساءل: كيف يمكن أن يمر هذا التسويف حتى بمعيار الفطرة والذوق السليم وليس القواعد والقرارات؟!
أما كنيسة مارينبا ببنى سويف فنجحت فى الحصول على ترخيص لإحلال سقف خرسانى بدلا من السقف الخشبى الأقدم، وما أن بدأ العمل حتى تجمع السلفيون وأوقفوا العمل.
∎ أما الحصول على موافقة لبناء كنائس جديدة فتلك قضية أشد تعقيدا، وتنشغل بها الكنيسة بكل مستوياتها، فإن قرارها بيد رئيس الجمهورية.
ولكن ما يصل إلى مكتب الرئيس هو النذر اليسير، فالأجهزة تقوم بدور عنق الزجاجة فى التأجيل والتسويف والرفض.
رغم أن الحل بين أيدينا، ويتمثل فى إصدار قانون بناء دور العبادة الموحد، وهو جاهز منذ سنة 5002، ولكنه لايزال حبيس الأدراج!
مما حدا بالكاتب الأمين أن يخاطب رئيس الجمهورية، قبل أحداث 25 يناير بقليل فى 26 ديسمبر 0102، يحمله وحده المسئولية فى هذا الصدد، تعليقا على تكراره القول أنه لا فرق عنده بين مسلم ومسيحى قائلا له:
«إن الإبقاء على سلطة الموافقة على بناء الكنائس دونا عن المساجد فى يدك، وعدم تضمين مشروع القانون الموحد لبناء دور العبادة، الأجندة التشريعية للبرلمان، يبقى على الفرق بين المسلم والمسيحى عندك».
وإنى إذ أقدم لك كاتبا مصريا مسيحيا، يعرض علينا بفهم وإحاطة وموضوعية ما يئن منه إخوتنا فهو ليس وحده الذى يحمل هذه الرسالة.
هناك آخرون يحملون الرسالة بنفس النبرة.
ولست فى حاجة إلى الإشارة إلى كُتّاب مسلمين، وهيئات رسمية وغير رسمية وجمعيات مجتمع مدنى، الذين يشغلهم هذا الهم، ومنذ سنوات طوال ولا يكفون عن التنبيه لأخطار التردد فى محاصرته.
وأحد التقارير التى أصدرتها «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» مثل رائع فى الرصد والتحليل بشمول وعمق فى تقديم الحلول.
∎ دور الأجهزة
وأخطر ما يتفق عليه معظم هؤلاء المفكرين والمراقبين أن السياسة التى تنتهجها بعض أجهزة الدولة بالذات أجهزة الأمن، سياسة أقل ما يقال بشأنها أنها ليست صائبة. فأجهزة الأمن لا تبدأ بفهم والاعتراف أن هناك احتقانا طائفيا له أسبابه المتعددة وقد انفجر منذ السبعينيات، مع بروز تيار الإسلام السياسى.
وأن عليها التعامل مع الحوادث الناشئة بهذه الروح.
ولكن الأمن يتعامل معها كجريمة عادية يواجهها بالصلح العرفى، وفرض الصلح عنوة، والتهجير القسرى أحيانا، مع ضمان ألا تصل إلى القضاء، بحيث تتم محاسبة الجناة.
وهذا يبعث برسالة مغلوطة إلى المعتدين «بأن الدولة لن تحاسبهم» فيتمادون.
وطبعا لا يغيب عن بالنا، أن هذا الاحتقان لن يجد حله النهائى إلا مع كل تقدم فى إرساء أسس الديمقراطية وحكم القانون والدولة المدنية.
والطريق إلى هذه الجنة ليس قصيرا وليس هينا.
والذين اعتقدوا أن 25 يناير فجر جديد يفتح الطريق لنهوض وطنى شامل، اكتشفوا أنها سراب يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
وإذا كنت قد ركزت فى السطور السابقة على تحليلاته وآرائه حول «ملف الأقباط» فليس هذا مجال اهتمامه الوحيد أو الرئيس.
بل إنه يؤدى واجبه كما يجب على الكاتب المسئول الذى يحرص على الصورة فى مجملها، فهو يبدى رأيه فى السياسات العامة والتطورات المختلفة على الساحة الوطنية والمجتمعية.
ولا يفوته دائما التوقف عند تنبيه الحس بالمسئولية العامة، وتكوين الوجدان المشترك وإرهاف الذوق، هنا أشيد بما كتبه حول فوضى اللافتات الانتخابية، التى تملأ كل مكان، حتى تحول البلد إلى مقلب قمامة، وينبه بحزن واشمئزاز، كيف وصل الاستهتار أن تغطى اللافتات، العلامات الإرشادية الموضوعة للسائقين على طول الطريق الصحراوى، بل تبقى تغطى اللافتات شهورا.
إنه نموذج طيب لمواطن يؤدى واجبه بإيمان وكفاءة، ويسعى مع الملايين الذين يطمحون إلى إعادة بناء وطنهم على أسس تضمه إلى قافلة العالم المتقدم.
ولن تذهب جهودهم هباء.
ولا يكتمل الحديث عن يوسف سيدهم وصحيفة وطنى دون أن نأتى على ذكر أنطون سيدهم مؤسس الصحيفة سنة 1958.
وهو من عينة الرواد الذين تهبهم الطبيعة لتمهيد دروب جديدة وفتح الأبواب للمستقبل.
فهو أول من أسس مكتبا مصريا للمحاسبة سنة 1939، وكانت مهنة يحتكرها الأجانب.
ثم أسس شركة «الكاتب المصرى» التى تعمل فى مجال الأنظمة المكتبية.
ورأس مجلة الشبان المسيحية.
وأول من فكر فى إصدار جريدة مسيحية موجهة للمسلمين والمسيحيين، ولعلها من أوائل الصحف المستقلة بعد ثورة 1952، كما لاحظ الباحث القدير مصطفى بيومى فى الكتيب الصغير المفيد الذى كتبه عن أنطون سيدهم.
وتتابع الأجيال التالية رسالته بروح الوحدة الوطنية والتحديث والتقدم. وطوبى لكل من يقف فى هذا الصف.