قضية مياه النيل، أصبحت بالنسبة لمصر قضية الساعة والشغل الشاغل والهم الأكبر الذى لا يحتمل أى تأخير.. بل ربما تأخذ الأولوية الأولى وذلك بعد أن نجحت أثيوبيا، فى تغيير قواعد توزيع مياه النيل المتفق عليها، بعد تمهيد من جانبها امتد لسنوات، مما يوقع أضراراً بالغة الخطورة بمصر والمصريين.. ومعظم المراقبين يربطون بين أحداث يناير التى زلزلت وصدعت الكيان المصرى، وخلقت وضعا ما يزال يتسم بعدم الاستقرار، وبين إقدام أثيوبيا على تنفيذ وبناء سد أو سدود على النيل الأزرق، يجعلها تتحكم فى كل مياه النهر، وتحرم مصر من حقوقها التاريخية فى مليارات المياه، التى لا يمكن أن تعيش أو تتنفس بدونها.
خطر رهيب قادم، يمكن رؤيته رأى العين ولمسه باليد.
ويتنادى المصريون لمواجهة الكارثة أو الكوارث القادمة.
وعلى هذا الطريق التقى فى جامعة أسيوط هذا الأسبوع مجموعة من الخبراء المتخصصين فى الجوانب المختلفة الفنية والسياسية والقانونية لقضية مياه النيل للتشاور حول ما يحدث، وجذوره وآفاقه وآثاره، وكيف يمكن مواجهته على الأصعدة المختلفة.
وهؤلاء الخبراء يعرفون ويتابعون ما يحدث على طول النيل، والمشروعات والأهداف والتوقعات والتداعيات التى ترتبط بها.
وهؤلاء الخبراء: الدكتور محمد نصر علام وزير الرى الأسبق، الدكتور عبدالسلام عاشور أستاذ المنشآت المائية بهندسة أسيوط، الدكتور نادر نور الدين أستاذ الموارد المائية والأراضى بزراعة القاهرة، الدكتور هشام بخيت أستاذ مصادر المياه بهندسة القاهرة، الدكتور محمد شوقى عبدالعال أستاذ العلوم السياسية، الدكتور عصام الزناتى أستاذ القانون الدولى بجامعة أسيوط، الدكتور عادل ريان نائب رئيس الجامعة.
وقد جمعت هؤلاء الخبراء الستة منصة واحدة لبضع ساعات، يقولون آراءهم فى القضية الكبيرة، وأدار الحوار الصحفى المعروف حمدى رزق.
ولم يخف على المستمعين النبرة التى غمرت أصوات المتحدثين بوقع الصدمة التى غمرت أصوات المتحدثين بسبب المفاجأة التى جاءتنا من جيران الجنوب، الممتزجة بالقلق المخيف من النتائج المنتظرة، والنقمة على ضياع وقت كان يجب ألا نضيعه فى مواجهة الأمر بالوسائل القانونية والدبلوماسية والإعلامية وغيرها.
وكيف أن التأخر والتقاعس ما يزال قائما.
وتوافق المتحدثون دون اتفاق مسبق على صعوبة إعادة الأمور إلى ما قبل إقرار أمر واقع على ضفاف النيل الأزرق وغيره من أنهار وروافد.
وفى نفس الوقت فإن استمرار الوضع على حاله لا يمكن تصور قبوله.
وأنه لابد من طرق جميع الأبواب والبحث عن سبل والتفكير فى بدائل.
ولم يتأخروا عن اقتراح بدائل.
∎ حجز 100 مليار
وفى وصف الآثار الكارثية على حياة المصريين المترتبة على إقامة السدود لم يختلف الخبراء، فالدكتور عاشور نبه أن مصر رفضت رفضا قاطعا إقامة هذا السد الكارثة، ليس فقط لكونه ينتقص من حصتنا من المياه، بما يوقع بنا أكبر الضرر، ولكن لوجود قصور شديد فى تصميم جسم السد بما يهدد بانهياره مخلفا سيناريوهات كارثية على مصر والسودان.
والدكتور نصر علام استعرض تاريخ الخطة الأثيوبية للاستئثار بمياه النيل، والتى ظهرت أول ما ظهرت سنة 58، بعد الإعلان عن مشروع السد العالى، حيث أرسلت الولاياتالمتحدة بعثة كبيرة من خبراء مكتب استصلاح الأراضى بقيت هناك ست سنوات حتى أصدرت تقريرها النهائى سنة 64، الذى يحدد ملامح استراتيجيته، تنتهى فى 2025، بإنشاء برنامج سدود، لاحتكار وتوليد وتصدير الطاقة الكهربائية لشرق أفريقيا، وبالتالى التحكم فى مصر التى تعتمد اعتمادا كاملا على مياه النهر.
وكان التنفيذ يتم تدريجيا، حتى جاءت مرحلة الفوضى التى أعقبت الربيع العربى فى فبراير ومارس 2011، لتعلن عن اللمسة الأخيرة، التى تتمثل فى إنشاء سد النهضة.
وشرح الخبير الكبير كيف أن الحجم التخزينى الضخم للسد الأثيوبى، يبتلع حوالى 59 مليار متر مكعب، سوف تحجز أمام السد، وهى الكمية المفروض أن تحجز أمام السد فى مصر.
وحين يتم ملء سد النهضة فى حدود 2019، فمعناه استنفاذ كامل مخزون مياه السد العالى.
وبعد امتلاء السد، لن يتبقى أى مخزون مائى أمام السد فى مصر.
أما الدكتور نادر نور الدين الأستاذ بكلية الزراعة، فقد استعرض بالتفصيل الموقف الفنى والتداعيات الاقتصادية والزراعية لسد النهضة فى 41 نقطة، كانت النقطة الأخيرة هى «اختفاء الأسماك من نهر النيل»، لفترة تمتد لخمس سنوات بسبب حجز الطمى، وعوالق مياه النهر المادة العضوية ونقص الأكسجين الذائب فى مياه النهر، خلف السد الأثيوبى ونقص التنوع الإحيائى.
وختم حديثه: يحتجزون مائة مليار متر مكعب من المياه خلف سدهم كانت قادمة إلى مصر ويدعون أن مصر لن تتضرر، ويقلصون مياهنا بعد ثلاث سنوات بمقدار لا يقل عن 12 مليار متر، بما يعنى بوار مليونى ونصف مليون فدان، تمثل ثلث الأراضى الزراعية المصرية، وتعميق فجوتنا الغذائية، ويستأثرون بمياه الفيضان وحدهم، ويدعون أن مصر لن تتضرر.
ولم يغب عن فطنة حضور الندوة أن الخبراء لم يتطرقوا إلى السلبيات التى شابت أداء الفريق المصرى، المنوط به إدارة المفاوضات مع تجمع دول حوض النيل على مدى السنوات، منذ التسعينيات حتى الإعلان عن سد النهضة.
ربما لأن المجال لايسمح بالحديث المفصل فى هذه النقطة.
وكانت إشارة الدكتور عصام زناتى كافية، عندما قال: «إن الموضوع جاد، ويجب على الهواة أن يتوقفوا عن التصريحات غير المسئولة من نوع أن مصر لديها ما يكفيها من المياه لسنوات، فهذا غير صحيح وغير علمى».
ومال على جارى هامسا، إن صاحب هذا التصريح هو وزير الرى.
وتداول المتحدثون حول مقترحات التحرك المصرى، وأجملها الدكتور نصر علام فى ثلاثة محاور:
1- التفاوض السياسى مع أثيوبيا، والذى يجب أن يكون سياسيا على أعلى مستوى تمثيل ممكن وفى أسرع وقت، وحدد أجندة التفاوض فى خمسة بنود، تبدأ بالتفاوض حول بدائل فنية أصغر للسد.
2- المصالح المشتركة مع السودان.
3- التواصل مع القوى والمنظمات السياسية الدولية.
4- وأخيرا المسار القانونى، إذا فشل التحرك المصرى التفاوضى مع أثيوبيا فى إيقاف إنشاءات السد، فيجب البحث عن تسوية سلمية لهذا النزاع، على ضوء ميثاق الأممالمتحدة والقانون التأسيسى للاتحاد الأفريقى، وإذا رفضت أثيوبيا، فقد يتطلب الأمر الاتفاق معها على اللجوء إلى التحكيم، وإذا رفضت فلا يتبقى إلا اللجوء إلى القضاء الدولى.
وفى حالة فشل هذه الخيارات لن يتبقى لمصر إلا اللجوء بالشكوى إلى الاتحاد الأفريقى أو إلى مجلس الأمن الدولى، وهذه الخطوة سوف تؤدى إلى تدويل القضية، وما لذلك من تداعيات يجب حسابها بعناية.
وحسنا أن المتحدثين الأفاضل، أشاروا إلى أن التحرك المصرى فى هذه المرحلة، مهمة شائكة وصعبة، والبداية لن تكون إلا بعد الانتخابات الرئاسية.
ونبهوا أنه يجب استغلال الفترة القليلة القادمة، وحتى الانتخابات الرئاسية فى إعداد وثائق التفاوض وأدوات المسارات السياسية والقانونية.
وهذه مهمة ليست هينة أو يسيرة، إنها تحتاج إلى تكاتف وخبرة وعلم وتعاون صفوة العقول المصرية القادرة على الإسهام.
يجب أن نبدأ على الفور، دون أى تلكؤ.
فالخطر على الأبواب.
والإشارة إلى أن التحرك يأتى فى وقت شائك، رآه حضور الندوة بأعينهم، عندما كان المتحدث الأخير- الدكتور هشام بخيت- يتحدث عن البدائل المطروحة فنيا، عندما اقتحم القاعة عشرات من طلبة الإخوان، مسلحين بالعصى وبعضهم ملثم لفض الندوة والاحتجاج على مشاركة حمدى رزق، وخاطبهم الدكتور نادر.. نحن نناقش قضية وطنية خطيرة، لم يستمعوا إليه، واستمروا فى شغبهم وتحطيم ما تصل إليه أيديهم.
أى وقت ذلك الذى اختاره الجيران وشركاء النهر العظيم لضرب ضربتهم!!.