كتب : رفعت سلام هي "منية شبين"، تلك القرية الصغيرة بمحافظة القليوبية. حاراتٌ وأزقة ضيقة، تتلوي داخل البيوت المبنية- في غالبها- بالطوب اللبِن، وقليل من الشوارع الرئيسية التي تتخللها، ولا كهرباء. والطفولةُ تؤسس- في الظلام القروي- لعالم مواز خاص بها، مما تسمعه من حكايات متناثرة وملاحظات عابرة. هكذا، يصبح "المسحراتي" سيد رمضان السنوي. أنتظره بقدر ما أنتظر رمضان، أو ربما أنتظر رمضان من أجله. يدور- في الثانية أو الثالثة صباحًا- علي بيوت القرية، واحدًا واحدًا بفانوس وطبلة، ليوقظ البيوت، بأسماء رجالها. لا ينسي أحدًا أو اسمًا. أسمع طبلته الليلية أحيانًا- لا صوته- قبل أن يدخل شارعنا، وأتتبع الدقات خطوةً خطوةً، إلي أن يقترب من بيتنا، فأنتظر نداءه علي أبي، لا باسمه المجرد، بل بكنيته الاجتماعية المحببة. لكنه حين يعود من نهاية الشارع التي تفضي إلي الحقول، يردد الأدعية الدينية والنداءات العامة، بلا أسماء. لم أره، ولا أعرف مَن هو، ولا أسأل الكبار، لكني أتخيله قادمًا في الظلام بطبلة وفانوس، لا يلوي علي شيء. لا يخطئ اسمًا، أو ينسَي بيتًا. تدور الأسئلة كثيرةً مراوغةً في رأسي عنه، لكني لا أخرجها من خيالاتي، وأشكل بها تصورات خاصة بي. أقاوم نوم الطفولة اللذيذ- وخاصةً في الشتاء- حتي أسمع طبلته ونداءه باسم أبي. وحين يغلبني النوم، أستيقظ آسفًا علي أنه قد مر. وأشدد علي نفسي بأني سأنتظره في الليلة التالية، بلا نوم. شخصية أسطورية لم أرها في النهار. ودقاته علي الطبلة الصغيرة لا تزال ترن في رأسي، كلما أتي رمضان علي في المدينة. فلا مسحراتي في المدينة، إنه هناك في تلك القرية الصغيرة النائمة في ظلام الطفولة البعيدة. وفي الفطور، لا يتخلف أحد، علي غير العادة. طقس لا يتخلف عنه أحد. نلتف جميعًا حول "الطبلية" والراديو يأتي بصوت الشيخ محمد رفعت، الذي يسبق الأذان. صوتٌ عذبٌ كأنه قادم من السماء ذاتها؛ عذوبة لا أرضية، لا إنسانية. تخلو الأزقة والحواري من الأطفال اللاهين الذين نادي عليهم أهلهم. ننتظر المدفع ينطلق من الراديو الصغير، وبعده الأذان. يبدو الطعام ألذ مما في الأيام الأخري. ولا عجلة أو لهفة علي الطعام. هي العجلة للخروج- بعد الإفطار- إلي الشارع، إلي اللعب مع الأطفال الآخرين بالألعاب الرمضانية.. والفوانيس، حتي مطلع النوم. فرمضان هو "منية شبين"، التي تمنحه مذاقًا وحضورًا خاصين. إنه لا يليق بالمدينة، بصخبها، وعنفها، ولهاثها، وعصبيتها المقيتة؛ تلك المدينة التي حولته إلي شهر عصيب، بلا أي جمال أو رهافة أو صفاء داخلي.